يخطئ التيار المدني حين يظن أن الكميات الوفيرة من الزيت والسكر وملحقاتهما التي درجت بعض التيارات التي سميت بالدينية علي توزيعها علي محدودي الدخل لشراء أصواتهم وتأييدهم في صناديق الانتخابات أو الاستفتاءات هي العنصر الحاسم أو المؤثر الأساسي في نتيجة فرز تلك الصناديق.. وليس هذا الظن هو فقط ما يعتبر تبسيطا للأمور وتسطيحا ينعكس علي الفهم والإدراك الصحيح وإنما هو نوع من الكسل العقلي والاستسهال المخل الذي يؤدي بالتيار المدني الي تبني مجموعة من المفاهيم التي تزيد من عزلته عن الشارع المصري بجماهيره الكبيرة. فالواقع ان الوعي الجمعي لنسبة كبيرة من المصريين أو قل هي النسبة الأكبر تم تشكيله بناء علي مكونات أو مدخلات حياتية تغيرت علي مدي ما يقرب من أربعين عاما بشكل كبير أثرت علي هذا الوعي وغيرت من بوصلة الانتماء للوطن الي بوصلة الانتماء الي الدين علي الرغم من أن الأصل هو عدم تعارض أو تصادم أي منهما بالآخر وكان ذلك في النهاية خصما من الرأسمال المجتمعي وليس إضافة إليه بأي حال من الأحوال مع كل التوقير للأديان السماوية وقدسيتها. ومن المؤسف ان إعادة تشكيل الوعي الجمعي والخصم من الرأسمال المجتمعي قد تم وتجذر في غياب حقيقي لمؤسسة الأزهر الشريف ورجاله الذين تنازلوا طوعا أو كرها عن دورهم الأساسي الذي تمثل دائما في ملء الفراغ الروحي وتأكيد وسطية الإسلام وتسامحه واعتداله وهو الدور الذي قامت به تلك المؤسسة العريقة علي مدي قرون من الزمن "بصرف النظر عن شطحات هنا وهناك أو قضايا تتعلق بحرية الرأي وإعمال العقل تعثرت فيها هذه المؤسسة ورجالها في بعض الاوقات". وتجدر الإشارة الي انه في الوقت نفسه الذي غاب فيه الازهر ورجاله عن دورهم المشار اليه أدت التغيرات او التحولات الاقتصادية والاجتماعية الي تقهقهر نظرية النظام الأبوي في القري والريف والكفور والتي كان بموجبها يسيطر الاقطاعيون والرأسماليون من ذوي الاملاك والأعيان والتجار علي جموع غفيرة من مواطني تلك القري والنجوع وعلي توجهاتهم وانتماءاتهم بل ووعيهم أيضا. وهذه السيطرة وإن كانت تصطدم في كثير من الأحيان " أو في أغلبها" مع مبادئ العدالة الاجتماعية إلا أنها لم تكن علي الإطلاق خصما من الانتماء والاخلاص للوطن أو من نسيج الوحدة الوطنية ولم تتطرق إلي استخدام الدين أو خلط أوراقه بالسياسة وألاعيبها. يضاف إلي ما سبق أن مؤسسات المجتمع المدني والنقابات المهنية لم تعر أي اهتمام لظاهرة تشكيل الوعي الجمعي بالشكل الذي أثر سلبا علي الرأسمال المجتمعي، فاكتفت الجمعيات الأهلية بالجانب الخيري علي حساب الجانب الثقافي والتنموي، أما النقابات المهنية فكان همها الأكبر عمليات الحشد والتجييش لكسب المقاعد تمهيدا لتسيس تلك النقابات تنفيذا لاجندات خاصة. وسط هذا الفراغ الذي نتج عن غياب مؤسسة الأزهر وانحصار دور ملاك الأراضي والأعيان وإهمال الدور الثقافي والتنموي لمؤسسات القطاع المدني فضلا عن التغيرات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية من ناحية والشعور بالاقصاء والتفرقة في الحقوق والبعد عن العدالة الاجتماعية من ناحية أخري.. ونتيجة لكل ذلك كان من الطبيعي أن يبحث الحائرون عمن يلبي احتياجاتهم الروحية انتظارا لسد احتياجاتهم المادية، وبذلك أصبحت التربة مهيأة لاستقبال البذور لمن يسرع بنثرها. والحاصل أن من اسرعوا بنثر تلك البذور هم الذين جنوا ثمارها بصرف النظر عما إذا كانت تلك الثمار إضافة أو خصما من الرأسمال المجتمعي الذي هو في الأساس الدعامة الأساسية لبناء المجتمع وقوته. ولسنا هنا بصدد المحاسبة أو البكاء علي اللبن المسكوب خصما من رصيد تجانس المجتمع ووحدته ونسيجه ولحمته ولكن من الضروري أن نحدد وجهة نظرنا في هذا الشأن علي النحو التالي: أولا: إن تشكيل الوعي الجمعي القائم في مصر الآن لم يحدث علي سبيل المفاجأة ولم يحدث فقط نتيجة الفقر والجهل والمرض وإنما كان بالدرجة الأولي نتيجة حدوث فراغ روحي وثقافي وتنموي علي النحو السابق شرحه لأن عوامل الفقر والجهل والمرض بالمجتمع المصري كانت من قبل وكما هي الآن إحدي سمات هذا المجتمع علي مر العصور. ثانيا: إن هذا التشكيل تم خلال أربعة عقود كاملة وبالتالي ليس من المنطقي تغييره أو إعادة تشكيله في سنوات قليلة. ثالثا: إن نظرة الاستعلاء والتكاسل والركون إلي معتقدات ونظريات تكونت بعيدا عن الشارع المصري في القري والنجوع ليست إلا مضيعة للوقت وإهدارا للجهود وإصرارا علي ما لا ينفع أو يفيد. رابعا: إن إعادة تشكيل الوعي الجمعي للمجتمع المصري ليس المقصود بها تغليب لتيار سياسي علي حساب آخر ولكنها ضرورة ملحة لاثراء رأس المال الاجتماعي بما يصب في النهاية لصالح عمليات التنمية والبناء وتحقيق فكرة العدل الاجتماعي وإعادة تقوية النسيج الوطني للمجتمع وإنهاء خلط الأوراق بين الدين والسياسة. خامسا: مؤسسة الأزهر الشريف لن تكون بمفردها قادرة علي ملء الفراغ أو علي إعادة الوعي الجمعي وتشكيله علي النحو الأفضل بدون مشاركة فعالة وحقيقية من المجتمع المدني المشغول حاليا بتوزيع التبرعات علي الفقراء أو بمراقبة صناديق الانتخابات والاستفتاءات دون أن يجتهد في معرفة حقيقة وطبيعة الناخب وتكوينه النفسي وثقافته وتحليل ودراسة نوعية اختياراته وقراراته. سادسا: علي الإعلام المصري بجميع أدواته وآلياته أن يسهم بفاعلية واصرار في إعادة تشكيل الوعي الجمعي بشكل يصب في صالح رأس المال المجتمعي دون انحازات أو تبني أجندات يفرضها فرضا علي أطياف المجتمع هنا أو هناك وزن يدعم مؤسسة الأزهر ويعيد بناء الثقة فيها وفي رجالها علي أن يكون معيار ذلك هو انتهاج مبدأ الاعتدال والوسطية والانتماء للوطن والتسامح الديني وعدم الخلط بين الدين والسياسة حرصا علي سلامة الوطن وأفراده. ليس ذلك من قبيل الأماني والأحلام وإنما هو ضرورة وطنية ملحة وعاجلة لا ينبغي تأجيلها تحت أي ظرف من الظروف.