الذي لاشك فيه أن أي حكومة في العالم تبحث عن ثقة المحكومين بها، ولكني أشعر في كثير من الأحيان أن حكوماتنا من أوائل القرن الماضي حتي كتابة هذه السطور لا تعمل إلا علي تحويل الناس إلي زبدة يتم تسييحها بالعديد من القرارات والفرمانات، ليعاد تعبئتها باسم "نحن نعيش في مرحة تحول وفي عنق الزجاجة"، وأقسم بالله أني سمعت كلمات مرحلة التحول عنق الزجاجة لأول مرة في حياتي من الوزير مرسي بدر وزير المعارف عام 1949 وحفظتها عن ظهر قلب، وعندما قرأت التاريخ عرفت أن محمد علي حين استولي علي السلطة في مصر وقهر شعبها من أوله لآخره واستطاع بالسخرة أن يخلق دولة حديثة وجيشا يقاتل به في قلب أفريقيا ويدق به أبواب الأستانة عاصمة الإمبراطورية العثمانية. ومضت الأمور مترنحة بعد عام ،1826 حين انكسر جيش محمد علي في معركة نوارين البحرية، واستقر الرجل حزينا داخل حدود مصر واليا عليها، لكن ما بقي من سخرته التي أذاب فيها المصريين في بوتقة الولاء له، بقي منه تأسيس نهضة علمية بالبعثات التي أرسلها وبالترسانات التي بناها ولم يفعل ذلك سوي بالمصريين المقهورين المكروبين، تماما كما كانوا مكروبين ومقهورين أيام المماليك، وغرق مشروع محمد علي في النهضة نتيجة حرص إسماعيل باشا علي جعل مصر قطعة من أوروبا بأول انفتاح باع فيه الجلد والسقط من الثروة المصرية، إلي أن جاء الاستعمار بعد أن تسلل الفرنسيون والإنجليز إلي أعصاب الاقتصاد المصري. وتمضي مصر مترنحة لها شكل قاهري جذاب بالثرثرة والكلمات والمجالس النيابية، وغير ذلك من أشكال الحلم في أن يكون الرأي حرا، ولكن الأيام تمضي بمصر لتصغر كقرية خلف البحر المتوسط، حدث هذا لا بفعل الاحتلال الانجليزي وحده ولكن بتهرؤ النسيج الذي تجمع في الثورة العرابية وأهين بهزيمتها، ثم تأكد ذلك حين انكسرت ثورة 1919 علي الرغم من صياغتها لحقائق النسيج المصري الواحد، ثم جاءت 23 يوليو بما أضافته لتألق الإرادة المصرية من جديد، وإن صاحبها قهر لكل القوي السياسية التقليدية التي برزت علي سطح مصر لنصف قرن قبل جمال عبدالناصر وثورته، وتحقق علي يد الثورة الحلم القديم من تحرر وطني طال صوته قارات ثلاث، وتأكد ذلك بأوسع وأدق خطة تنمية في تاريخ مصر فيما بعد محمد علي، ثم انكسر كل ذلك في يونيو 1967. وقد عشت تلك الفترة بين دموع القهر ومراقبة الاستعداد لحرب التحرير التي جاءت في أكتوبر 1973. وكلما تدنت الثقة في السياسات التي ارتكبتها حكومة مثل حكومة عاطف عبيد أو التبديد الذي حدث في العديد من الإمكانات، تمنيت أن يكون للقطاع الخاص قدرة علي تجاوز ما تم بناؤه عبر ثورة يوليو ليجيد فيما هو جديد وقادر علي اقتحامه. وكل يوم أدعو السماء أن نستعيد درجة من الثقة في أنفسنا نميز بها بين الجيد والرديء، علي الأقل كيلا تكون درجة اقبالنا علي الحياة مسمومة مرة باختلاط مياه الشرب بالمجاري، وأخري بتقلص ميزانية الصحة، وثالثة بتدهور ميزانية التعليم، وأخيرا حالة التوقف عن الحياة يوميا لمدة أربع ساعات لكل إنسان يعمل في القاهرة ويحتاج إلي ركوب مواصلات، متذكرا قول شيمون بيريز لصديقي شريف بسيوني "أخاف من مصر عندما ينتظم مرور القاهرة". والمعني واضح أن درجة التماسك الاجتماعي يدل عليها انتظام المرور، فهل نثق في أنفسنا وننظم المرور في حياتنا؟