يظل التفكير العلمي هو لحن الشوق الذي يعزف عليه وجدان كل حالم بتطور وتطوير العالم العربي، هذا المفكك قبليا وسياسيا، وإن كانت الصورة العامة له في علاقات الحكومات بعضها بالبعض كعلاقات السمن بالعسل، وفي قليل من الأحوال كعلاقة الخل بالفسيخ ، يتم التهامه في يوم شم النسيم ثم نبتعد عنه علي الفور، وقد يدخل البعض إلي المصحات نتيجة التسمم بهذا الفسيخ . ودائما أفكر فيما يطرحه ولا يمل من طرحه إسماعيل سراج الدين عن ضرورة الأخذ بالعلم في حياتنا. وفي مقاله الأخير بالأهرام، طرح إسماعيل سراج الدين ما يشبه الوثيقة للحاق بالعصر، مذكرا كلا منا بما كان عليه الأقدمون من رحابة فكر واتساع أفق وقبول الاختلاف، وكيف صرنا بقصد أو بدون قصد نتناحر بتشتت ونتوه في دهاليز ضيق الأفق، ويلتحف بعضنا بأحجار التعصب، وندمي بعضنا بعضا بالإنكار والرغبة في إبادة كل من يختلف معنا . وحين أقرأ نداء إسماعيل سراج الدين بضرورة فتح الأبواب للتعدد والتواصل مع التيارات العالمية، فأنا أتساءل: "كيف يمكن تحقيق ذلك في ظل نظام تعليمي مخادع، أقل ما يوصف به بأنه نظام يخدع الجميع، بداية من القائمين به ووصولا إلي الأسر التي تخضع للعبة التزييف تلك، وإلا فبالله عليك كيف نتواصل مع التعدد ومع العلم في آفاقه الرحبة، وكل ما يدرسه التلميذ في المدرسة أو الطالب في الجامعة منفصل عن العصر الذي نحياه بعشرات السنين، وأن جامعاتنا العلنية تتمتع بجامعات موازية هي دكاكين طبع المذكرات في الشوارع الجانبية، تلك الدكاكين التي تمول حالة "الختان الجماعي" للعقل الشاب عن التفكير. نعم إنها دكاكين ومراكز دروس خصوصية تمنع الطالب من التفكير، فيتخرج في الجامعة ولا يجد وسيلة للحصول علي عمل سوي بائع "فريسكا" علي الشواطئ، ويضحك عندما يسمع عن الكمبيوتر والإنترنت والثورة المعرفية، لأن قوت يومه صار في يد لص الدقيق الذي يصنع الفريسكا ليدوخ الشاب في الشمس كي يلحق بقوت اليوم . ولا أريد أن أذكر أحدا بالمشاهد المهينة للمدرسين أثناء تصحيح أوراق الثانوية العامة، حيث يوجد بالحجرة الواحدة أكثر من عشرين مدرسا يعملون في ظروف بشرية مهينة، ويتحملون ذلك، ثم نثق بنتائج تصحيحهم للأوراق الشاب . إن الاهتمام بالتعليم يتطلب ثورة فعلية نخصص لها المال المناسب، فبدلا من أن نعين الوزراء السابقين بعشرات الألوف في مناصب شرفية، يمكننا أن نبحث عن توفير المال اللازم لتحول المدرسة إلي طاقة منتجة لأفكار وتعليم التفكير والتدريب علي ما يمكن أن يحتاجه الإنسان لسوق العمل . وتظل في رأسي ولا تغادره تجربة بانكر روي المثقف الهندي الذي أقام في قري الهند ونشر فيها صناعة المواقد الشمسية، بينما نغرق نحن في استيراد أو تصنيع مولدات الكهرباء، وقد عرض الرجل فكرته بمكتبة الإسكندرية، وتطوع واحد من رجال الأعمال أن يقوم بتمويل مثيل لها في مصر، ولكن كان ذلك من قبيل الدعاية لنفسه، فقد اختفي من مسرح الحماس ليتواري وراء ستار بعيد عن العمل العام . تري، لو أن عندنا مشروعات متعددة لتطوير التعليم تقيس الرحلة بواقعية من عمر السادسة حتي العشرين، ويكون الهدف زراعة أساليب الحياة بمنهج علمي رصين وبسيط، لو كان عندنا مثل ذلك لما اخترت عنوان مقالي هذا "نشتاق إليه ونبتعد عنه واسمه العلم لماذا؟".