أظن أن أهم ما كشف عنه محافظ المركزي د. فاروق العقدة في مؤتمره الصحفي الأخير هو ما يتعلق بتحركه لتطبيق قواعد الحوكمة والشفافية ومنع تضارب المصالح داخل المركزي وفي ملكيته للبنوك.. وهي قضية طالما نادينا بها فِي هذا المكان واغضبت الكثيرين عند اثارتها. ويبدو أن د. العقدة كان يعرف ويدرك ما لديه من تضارب مصالح، إلا أنه كان يتحين الوقت الملائم لطرح القضية وفك اشتباكاتها وهذا ما كنا جميعا ننتظره. هذا الاشتباك طرحه العقدة في أمرين أولهما ملكية المركزي في عدد من البنوك وقد أعلن العقدة عن تخارج المركزي من مساهماته في البريطاني العربي والعربي الافريقي والمصرف المتحد والقاهرة.. وهي خطوة هامة جدا لقياس الأداء الحقيقي لتلك البنوك ومدي قدرتها علي المنافسة دون دعم من المركزي اضافة إلي الفصل بين المالك والرقيب الذي طالما ألقي بظلاله علي اداء المركزي من جهة واداء تلك البنوك من جهة أخري.. وقد قال د. العقدة في هذا إن تملك البنك المركزي ليس هدفا في حد ذاته وإن اعتبره احدي الأدوات التي كان المركزي يستخدمها لمواجهة مشاكل وتفادي مخاطر تهدد الأسواق. أما الأمر الثاني فهو داخل مجلس ادارة البنك المركزي نفسه الذي يضم في هذه اللحظة رؤساء لبنوك استثمار وبنوك خاصة وعامة مما اعتبره العقدة نفسه أخيراً "نماذج واضحة لاختراق قواعد الحوكمة" اضافة إلي ازدواج عضوية مجالس الادارات ونسب التمثيل واشياء عديدة.. العقدة قال في مؤتمره الصحفي إن تعديل ذلك يتطلب تعديلا تشريعيا وحدد 2010 مهلة للتطبيق الكامل داخل مجالس الادارات ومجلس المركزي نفسه. واتمني أن يتمسك العقدة ومن يعاونونه في ذلك بفكرة التعديل التشريعي.. فالمذكرات أو القرارات الإدارية في بلادنا لا تنفع كثيرا.. ولا ننسي مذكرة منع تضارب المصالح التي اصدرتها الحكومة في بداية دخول رجال الاعمال إليها وانتهي بها الأمر في درج رئيس الوزراء لا تحل ولا تربط ولا تمنع أي تضارب.. فقد تحول الأمر إلي قضية "نية" هذا نيته طيبة وذاك نيته خبيثة.. وكل واحد ونيته!! والدول لا تدار أبداً بالنوايا!! نتمني أن يضرب المركزي المثل بقانون كي يكون ملزما ليس فقط لفريق العقدة ولكن ايضا لمن سيخلفونه في يوم من الأيام.. فلا يمكن أن نبقي في مصر دائما مرتبطين "بنوايا" الأشخاص وإن كنا نثق في ادارة العقدة فيجب ألا تستمر الأمور بعده إلي مجرد "ثقة وعشم".. الأمر يحتاج إذن إلي قانون يجتث التضارب من الجذور. إلا أن التحدي الحقيقي هو التطبيق كيف يمكن أن يكون مجلس إدارة المركزي متفرغاً وكم سيكلف ذلك؟! أم أن الأمر يمكن أن يقف عند حدود الافصاح والشفافية وهي القواعد المعمول بها الآن بشكل غير رسمي، بمعني ألا يصوت العضو الذي يدرس المركزي قضيته أو عقوبته.. غير أن الأمر ليس مجرد التصويت فعضو المركزي يعرف معلومات قد تفيد البنك الذي يعمل به أو الشركة التي يمثلها أكثر من غيره.. وهنا تسقط عدالة المنافسة. المركزي أمامه عدد من الخيارات الآن لكن الأهم هو اعترافه بالمرض وأعراضه.. ويبقي اختيار نوع العلاج والطبيب. يبقي التضارب الثالث والذي أعلم أن د.العقدة علي دراية كاملة به وهو بقاء المحافظ رئيسا للجمعية العمومية للبنوك العامة.. وهو أمر تحدثنا عنه كثيراً من قبل، لأنه يجعل الرقيب مالكاً في نفس الوقت وهو أمر لا يستقيم. وأظن أن العقدة وهو يعلن عن خطته للمرحلة الثانية من تطوير الجهاز المصرفي يحمل في رأسه تصوراً ما ومدة زمنية محددة لإنهاء هذا التضارب. عندها يكون المركزي قد ضرب مثلا مهماً ومؤثراً في منع تضارب المصالح وتعارضها.. الأمر الذي فشلت كل أجهزة الدولة بكل أشكالها في تحقيقه لا في البرلمان ولا في الحزب الحاكم، ولا في الحكومة نفسها.. فاختلط العام بالخاص واختلطت السياسة بالبيزنس واختلطت الأوراق ببعضها.. فلم نعد نعرف من سيسفيد من مَن، ومن يحصل علي مصالح لا يحصل عليها آخرون، أما لأنه الأقرب، أو لأنه يعرف أكثر. خطوات المركزي تستحق الإشادة .. لكننا ننتظر الخطوة الأخيرة .. عندها نصفق بحرارة فقد تخلي المركزي عن كل قبعاته.. وأبقي قبعته الرئيسية والوحيدة.. الرقيب.