رافعاً حاجب الازدراء الأيسر، يزم شفتيه وهو يصر علي أسنانه لنخرج الكلمات مقطعة قاطعة تؤكد علي الجدية: "يعني إيه اللي انت بتقوله" ثم يتبع ذلك شخطة قوية "كنت فين ساعتها؟" هذا هو المشهد المتكرر علي شاشات التليفزيون كلما ظهرت علي السطح جريمة اعتبرها الإعلام أو جعلها الإعلام جريمة رأي عام. يتكرر هذا في معظم البرامج وفي معظم المحطات مما جعلني استنتج أن هناك كثيراً من مقدمي ومقدمات البرامج التليفزيونية بداخلهم رغبة دفينة لم يستطيعوا تحقيقها وبالالتحاق بسلك البحث الجنائي خصوصاً والشرطة عموماً. في هذا الموقف يكون المذيع ولا استثني نفسي متقمصاً دور ضابط مباحث أو وكيل نيابة وهو يشخط وينطر في الضيف الذي غالباً ما يكون علي التليفون لا حول له ولا قوة لينقص هذا المشهد فقط أن يكون بجوار كل ضيف وفي كل مناسبة مماثلة شخص يقوم بدور مخبر كلما طرح مقدم البرنامج سؤالاً لا يجيبه الضيف بالشكل المرضي للباشا يلكزه قائلاً: "رد علي البيه كويس". بالطبع التعميم هنا غير وارد ولكنها فقط ملحوظة أعتقد أنه يشاركني فيها الكثيرون. لا أعلم حقيقة من الذي يعطي أحدهم الحق في استخدام هذا الأسلوب التحقيقي واستجواب الآخرين بكل قسوة وتشكك وعدم تصديقهم في محاولة عنترية لإظهار البطولة والقدرة علي استجلاء كل غامض وكشف كل مستور ولعل القضية الأخيرة الخاصة بابنة الفنانة ليلي غفران وصديقتها اللتين راحتا ضحية لجريمة بشعة كانت صورة لسقوط إعلامي عام من وجهة نظري. كل جريدة حاولت كما قال لي أحد الزملاء محرري الحوادث أن تركب الموضوع وتعثر علي أي حاجة صالحة للنشر في بداية الأحداث، ولما كانت المعلومات ضئيلة فلابد من تكملة الصورة بما اطلعهم عليه الزميل "الخبرة" وهي في هذه الحالة تكون مقرونة بالرغبة بالكثير في الإثارة ويا سلام علي الكثير من المبيعات. إذا قال أحدهم سهرة فلابد من باب الحبكة أن تكون حمراء لا أي لون آخر، وأذا أضاف أحد المحققين في جمع الاستدلالات أعقاب سجائر فلابد أن تكون علي الأقل حشيش لزوم تحبيش الموضوع، أما إذا جاءت سيرة شاب، فلابد أن تكون علاقة خاصة غير معلنة تصل إلي حد الفجور. عندما نجمع كل ما سبق نجد سهرات وعلاقات آثمة وحفلات ماجنة ومخدرات دون أن يكون لدينا حتي أبسط المعلومات الواضحة التي تشير إلي ذلك كله. لقد كتبت اغلبية الصحف بيانات وأقوال مشابهة غير عابئة بأبسط قواعد الأخلاق التي يتشدقون بها يومياً، ودون أدني حمرة خجل في أننا نرمي أسراً بالكامل في أتون الإشاعات التي تصبح مع عشق الكثيرين لرائحة الدم والنبش في الأسرار الخاصة، والاستمتاع بمنظر السقوط أقوي من الحقائق في الأذهان. أعلنت الشرطة أنها قبضت علي مشتبه فيه والنيابة تحقق معه حتي إذا وجه له الاتهام يظل بريئاً حتي تثبت إدانته في المحكمة. هذا هو القانون وهذا هو المنطق ولكن الشحن الإعلامي رفع سقف التوقعات لدي الناس وفتح شهيتهم لجريمة لابد من أن تحتوي علي الأقل بعضاً من التوابل التي وعدوا بها. وعليه لم يصدق أحد أن هذا هو الجاني المحتمل، لا مخدرات، لا علاقات آثمة، لا سهرات حمراء، جريمة أونطة هاتوا فلوسنا هكذا قال الكثيرون لأنفسهم. من هنا أخذ الكثيرون يقررون أنه ولابد من وجود شيء خفي.. ويا سلام لو الخفي يطلع ابن رجل أعمال ويا سلام لو له نفوذ سياسي تبقي كده حراقة وأسخن كثيراً. يا سادة لا نحن ضباط مباحث ولا نحن وكلاء نيابة ولا حتي عساكر مرور، نحن صحفيون وإعلاميون علينا أن نؤدي مهمتنا فقط وأن نحترم مشاعر الآخرين وخصوصيتهم وأن نتعفف عن تبني لغة الشارع لتصبح معتمدة بكل ما فيها من بذاءة. وبلاش طريقة "رد علي البيه كويس".