كلما مشيت في ميدان الأوبرا القديمة، العين تكاد تدمع حين تلوح في الخيال مشاهد مما شاهدته فيها من أوبرات أو فرق باليه أو حفلات موسيقية. وكان سيد خشبة هذا المسرح هو شكري راغب الذي غادر الدنيا بعدأن احترقت الأوبرا. مازلت أتذكر نصيحة الفنان المصور سيف وانلي حين غادرت الإسكندرية كي أقيم بالقاهرة، فقد قال لي "عليك أن تبحث عن مسكن بجانب الأوبرا" وفعلت، فعثرت علي بنسيون شهير في مواجهة عمارة الإيموبليا تديره السيدة كيتي، وهي ألمانية عجوز، وكان يقيم في هذا البنسيون عدد من الفنانين التشكيليين، منهم الرائع الكبير ممدوح عمار، وحجازي الرسام، فضلا عن عدد من العازفين في أوركسترا القاهرة السيمفوني. وازدهرت أوائل الستينيات في حياتي بصحبة الفنانين. ولن أنسي يوم أن جاءت مايا بلستسكيا، أشهر راقصة باليه مع فرقة البولشوي، وكانت تلك هي المرة الأولي التي ترقص فيها خارج موسكو، وقدمتها الراقصة الأولي علي مستوي العالم جالينا أولينوفا، وكانت عجوزا فوق السبعين. وكانت الأوبرا هي المكان الرائع الذي يعلم أجيالا هذا الفن الساحر. ولن أنسي أبدا كيف رأيت علي مسرح الأوبرا القديم أوبرا لاترافياتا، وكانت تؤديها فرقة الأوبرا الإيطالية. وكنت أسعد بصحبة الشاعر الكبير صلاح عبد الصبور كي أحضر معه بروفات مسرحيته الشديدة الصفاء "مأساة الحلاج"، وهي التي تصور هذا الغياب الشديد لكل من الحرية والعدل، وكيفية تزوير أصوات البسطاء ورشوتهم كي يوافقوا علي إعدام سيد الدعوة للحرية والعدل معا الصوفي الشهير الحلاج. وهكذا صارت الأوبرا هي بيتي الثاني الذي أسير إليه مرة كل أسبوع كي أحضر الحفل الموسيقي الشهير لفرقة أوركسترا القاهرة السيمفوني بقيادة ليتشاور المايسترو اليوغسلافي. وهو الذي كان يجبر كل عازف علي أن يتدرب يوميا علي العزف علي آلته لمدة ساعتين علي الأقل، وأن يحضر العازفون جميعا بروفات أربع كي ينسجموا معا. وكان الرجل حازما ودقيقا، وغير متهاون علي الاطلاق. تعرفت في تلك الفترة علي أن الحياة كلها موسيقي وأوبرا ومسرح وباليه، ففي كل تلك الفنون توجد كل العلوم بداية من الهندسة إلي الفيزياء إلي الكيمياء. واستطيع أن أقول إنه من خلال مسرح الأوبرا سقط هذا الكذب الذي كان منتشرا بين أبناء جيلي عن انفصال العلم عن الفن. الآن صارت الأوبرا مجرد جراج اتمني أن يتم هدمه كي نعيد بناء الأوبرا علي نفس نمطها القديم، فنحن نملك خرائط التصميم، ويمكن أن نطورها بما يناسب العصر. واتمني أن يكون أول قرار لفاروق حسني بعد أن يفوز بمنصب أمين عام اليونسكو هو إعادة بناء الأوبرا في مكانها وبنفس رسومها كي نعيد للقاهرة رونقها القديم. وأظن أن ما دفعه المصريون من ثروة كي يتم بناء القاهرةالإسماعيلية إبان حكم إسماعيل باشا يمكن أن نسترده من جديد، فتعود حديقة الأزبكية وفرق موسيقي الشرطة والجيش التي كانت تعزف صباح كل جمعة فيها. وما أطلبه ليس هوسا بعودة القديم، ولكنه رغبة في أن نحفظ للقاهرة القديمة رونقها وهو أمر ليس ببعيد، خصوصا بعد إنجاز عودة شارع المعز لدين الله الفاطمي إلي رونقه الأول.