يعتقد الكثير أن ارتفاع أسعار البترول إلي مستويات قياسية من صالح الدول المنتجة، إلا أن ما يجري في الوقت الحالي عكس ذلك تماما. فالدول المنتجة هي الضحية جراء صعود الأسعار الذي تعززه الإدارة الأمريكية لدعم سياساتها. اتجاه أسعار البترول في الوقت الحالي يخالف العوامل الفنية للسوق، ويسير صعودا مع انخفاض سعر صرف الدولار، وهو نتاج الإدارة الأمريكية المتمثل في خفض أسعار الفائدة خلال الأشهر الماضية من 2.5% إلي 2.2%. وهناك علاقة عكسية نتيجة تسعير البترول بالدولار وهي كلما انخفض سعر الدولار ارتفع سعر برميل البترول، والعكس صحيح، وهي المعادلة التي تتحكم من خلالها الولاياتالمتحدة في أسواق الطاقة. والسؤال: كيف تستفيد أمريكا من ارتفاع الأسعار الذي سيرفع فاتورة الاستيراد ويسبب عجزا في الميزان التجاري، خصوصا أنها من أكبر الدول المستهلكة والمستوردة؟ الولاياتالمتحدة لديها سياسة لتحقيق نوع من الأمن الذاتي للطاقة، وهذا يتطلب تحفيز المستثمرين إلي ضخ رؤوس الأموال في انتاج الطاقة التي تعتبر غير مجدية اقتصاديا في أمريكا نتيجة الكلفة المرتفعة مقارنة بكلفة استيراد البترول من الخارج. ولإزالة هذا الاشكال عملت الإدارة الأمريكية علي توفير العوامل المناسبة لجعل الانتاج ذا جدوي اقتصادية، من خلال رفع أسعار البترول في الأسواق العالمية إلي مستويات قياسية، وفرض ضرائب لرفع كلفة البرميل المستورد إلي مستويات تفوق كلفة الانتاج في أمريكا، وبالتالي تتحول الاستثمارات من الاستيراد إلي الانتاج. وتقوم الولاياتالمتحدة ضمن برنامجها بتحويل المحصول الغذائي "الذرة والفاصوليا" إلي وقود حيوي "الديزل والايثانول"، وقد حولت مساحات زراعية شاسعة لهذا الغرض، وانتجت 6 مليارات جالون في ،2005 و9 مليارات جالون في ،2007 وتسعي إلي انتاج 36 مليار جالون تعادل نحو مليار برميل خلال السنوات المقبلة حسب ما أوردت التقارير الصحافية. كما تمنح الإدارة الأمريكية دعما كبيرا لمنتجي الوقود الحيوي وتعفيهم من الضرائب بما يشكل جزءا من الاغراءات التي ترفع العوائد، وتدفع المزارعين نحو انتاج المزيد من المحاصيل الزراعية المستخدمة في انتاج الوقود. وعندما تتمكن الولاياتالمتحدة من انتاج كميات هائلة من الديزل الحيوي والايثانول، فإن أسواق البترول العالمية ستخسر جزءا كبيرا من الطلب، وستتغير المعادلة من زيادة الطلب وقلة المعروض إلي قلة الطلب وزيادة المعروض، مما يشكل ضربة قوية للدول المنتجة التي ستجد نفسها في مأزق لتسويق ثروتها البترولية بثمن بخس، ويتوقع أن تتلقاها خلال السنوات القليلة المقبلة. كما أن سياسة خفض الدولار بصفتها أداة لرفع الأسعار تؤدي إلي ضعف القوة الشرائية لايرادات البترول، وحدوث تضخم في الدول المنتجة مما يرفع كلفة المعدات والصيانة في المنشآت البترولية وبالتالي تآكل العوائد وتراجع الاستثمار في الاستكشاف والانتاج في الدول المنتجة من قبل الشركات لتقليل خسائرها والتوجه نحو أسواق جديدة أكثر جدوي. وخير مثال علي النتائج السلبية لانخفاض سعر الدولار علي الدول المنتجة للبترول تعرض مشروعات عملاقة في دول الخليج العربية لمشكلة ارتفاع الكلفة الانشائية وتوقف بعضها، منها مشروع مصفاة ينبع في السعودية الذي عاني من ارتفاع الكلفة من 6 مليارات إلي 12 مليار دولار، مما دعا الشركة الأمريكية كونكو فيليبس إلي التراجع عن تنفيذ المشروع عدة مرات. ويرجع الصعود الجنوني للكلفة إلي تراجع سعر صرف الدولار مقابل العملات الرئيسية العالمية، الذي أدي إلي ارتفاع كلف الانشاءات الهندسية واستمرار تعطل أو تأجيل الكثير من المشروعات البترولية والبتروكيماوية في دول الخليج، فالنتائج التي ظهرت جراء انخفاض الدولار وارتفاع أسعار البترول هي لتراجع الاستثمار في قطاع البترول في الدول المنتجة، وتقدم الاستثمارات في قطاع الطاقة لانتاج الوقود الحيوي في الولاياتالمتحدة. كما أن الولاياتالمتحدة من خلال سياسة خفض الدولار قدمت هدية للاتحاد الأوروبي والدول الصناعية الكبري لشراء برميل البترول بسعر أقل من سعره الحقيقي. ولهذا الدول التي ارتفعت عملاتها مقابل الدولار وخصوصا الاتحاد الأوروبي لم تبد اعتراضها جراء ما يحدث من سياسات تتلاعب بأسعار السوق البترولية العالمية، علي عكس دول "أوبك" التي رفضت دعوات واشنطن لزيادة الانتاج، والقت جام عضبها علي السياسة الأمريكية. وإذا كانت الولاياتالمتحدة فعلا تريد خفض سعر برميل البترول فإن بيدها المفتاح من خلال رفع سعر صرف الدولار، ولكنها تفعل ما تراه يصب في مصالحها. أما الدول المنتجة فمن صالحها انخفاض سعر برميل البترول جراء ارتفاع سعر صرف الدولار لأن العبرة في القوة الشرائية لبرميل البترول وليس في سعر البترول، كما يقول الباحث الاقتصادي أنس الحجي: "فما سعر 500 دولار للبرميل إذا كانت لا تشتري إلا كيسا من الرز؟".