لم أجد من مظاهر الوحدة العربية خلال قمة دمشق الأخيرة إلا الخطب التي تباري خلالها كل الزعماء في إظهار قوميتهم وانتمائهم العروبي.. و"الست"! أما الخطب والكلام فلم يعد أحد من هذه الأمة يصدقها بل إن عددا ممن قالها لا يؤمن بها أصلا.. إذ لا يكفي القول، لأن لدينا منه مجلدات ويحتفظ أرشيف الجامعة العربية بالكثير منها، وعلي امتداد عشرين قمة سابقة علي الأقل هناك أطنان من الورق، قد لا نستبعد أن نجدها يوما عند بائعي التسالي في شتي أرجاء الوطن العربي. وأما "الست" فهي الباقية في ذاكرتنا، نلتف حولها، لأنها الملاذ الأخير علي ما يبدو. ..كوكب الشرق أم كلثوم تصدح بأغانيها في جميع المقاهي، والمطاعم الدمشقية لا فرق بين منطقة يسكنها سوريون، أو فلسطينون، أو عراقيون مهجرون، امتلأت بهم دمشق الفيحاء، أو حتي لبنانيين ظلوا بعيدا عن القطيعة الرسمية بين النظامين السوري واللبناني. وإذا كانت القدس من أبرز مظاهر خيبتنا كعرب في العصر الراهن، فإن من المفارقات أن أعرف ولأول مرة خلال زيارتي لدمشق لتغطية القمة العربية، معلومة جديدة علي، وربما لا يعرفها الكثيرون، أن أم كلثوم لقبت بكوكب الشرق خلال زيارتها إلي مدينة القدس، وذلك في عام 1928 حين غنت علي مسرح "عدن" أمام جمهور غفير من عشاق الطرب والشعر العربي القديم، وقد أطلقت عليها هذا اللقب سيدة حيفاوية تدعي أم فؤاد، حيث صعدت علي المسرح وقالت لها أنت كوكب الشرق بأكمله. حكي لي هذه القصة شيخ يدعي "أبو ياسر" التقيته في منطقة السيدة زينب و"ضبطته" متلبسا بالاستماع إلي أم كلثوم، وكان يتحدث بلكنة فلسطينية مميزة، وأكد أن العديد من الروايات الشفهية سجلها بعض المؤرخين حين قابلوا تلك السيدة الحيفاوية في مخيمات الشتات، وتحدثوا عن الزيارة التاريخية لأم كلثوم إلي حيفا والقدس، وأوضح الشيخ "أبو ياسر" أن الدعوة التي لبتها أم كلثوم كانت من نادي الرابطة الأدبي وينشط به شباب مدينة حيفا خلال الانتداب البريطاني لفلسطين. ويضيف هذا الشيخ، الذي يحمل ذاكرة حية - بفضلها لا تموت الأوطان مهما كان التنكيل الاستعماري والاستيطاني - نقلا عما كتبه الموسيقار المقدسي واصف جوهرية، أن حفل "الآنسة" أم كلثوم يعد من الليالي الملاح ومن الأيام التي لا تنسي، ويوضح أن أم كلثوم انتقلت إلي حيفا عبر القطار لإقامة حفلين أحدهما في شارع الملوك، وثانيهما في مسرح الانشراح المشهور قبل النكبة. ويتابع أبو ياسر بحماسة شديدة حديثه عن الحالة الثقافية قبل النكبة وكيف كانت حيفا مشروع مدينة ثقافية متطورة علي جميع الأصعدة، ويشير إلي أن عميد المسرح العربي يوسف بك وهبي عرض علي مسارحها مع فرقة رمسيس، ومنها مسرحيته "كرسي الاعتراف"، وأن فريد الأطرش وشقيقته أسمهان أحيا حفلات غنائية حضرها الآلاف من الجمهور. ويعود محدثي إلي أم كلثوم التي يشير إلي أنها كانت تدعي بالآنسة أم كلثوم حتي أضيف عليه لقب كوكب الشرق عندما غنت علي مسرح الانشراح أغنية "أفديه إن حفظ الهوي" ونالت ذلك اللقب من فلسطين! أما المفاجأة الأكبر فكانت عندما أصرّ الشيخ "أبو ياسر" علي أن يطلعني علي كارت الدعوة لحفل أم كلثوم عام ،1928 وتحديدا يومي الخميس والجمعة 8 و9 تشرين الأول، الساعة التاسعة مساء.. وكتب في الدعوة أيضا: "ليلتان فقط تحييهما الآنسة أم كلثوم علي مسرح سينما عدن والقدس.. محلات خصوصية للسيدات.. درجة أولي 530 ملا، درجة ثانية 430 ملا.. درجة ثالثة 220 ملا.. فلا تدعوا هذه الفرصة تفوتكم" وفي وسط الدعوة صورة قديمة لأم كلثوم بالأبيض والأسود وهي تغطي شعرها. وجرنا الحديث عن محنة الوطن والقمة العربية الأخيرة التي تظهر بشكل جلي ذلك التمزق في جسد الأمة، إلي تذكر نكسة 67.. وقال محدثي إن أم كلثوم قررت اعتزال الغناء إبان النكسة.. من فرط تأثرها فهي مواطنة عربية شعرت بما شعر به كل عربي في تلك المحنة. وأضاف نقلا عما أوردته مجلة المصور في حوار معها: "لم يكن ممكنا أن أفرح وأن أضع في صورتي لحظات فرح تمنح طربا ولا ترضي مزاجا، كان الحزن طاغيا، كاد يشلني، ويحبس صوتي، ولم ينقذني إلا بريق أمل في لحظة يأس". وقالت أيضا: "إن مصر لن تنهزم، وأن تاريخها في النضال تحدي كل النكسات، ولقد صمدت في أيام المحن لتنتفض، وصنعت انتصاراتها العظيمة" ثم رأت في صوتها رغبة في الانطلاق، وأصبح الغناء وسيلة لهدف عظيم قادم، وهو تحويل الهزيمة إلي نصر والثأر من النكسة، ووضع السلاح الذي تملكه - صوتها - في خدمة الوطن. نعم، كوكب الشرق أم كلثوم هي أكبر من مطربة أطربتنا بصوتها، وفلسفت الحب، بل كانت أقوي من ألف خط طيران يربط الوطن العربي، ومن ألف خط سكة حديد.. ومن كل شبكات المحمول والإنترنت الحالية.. أم كلثوم أجمل خريطة مسموعة في الوطن العربي، وأقوي الأدلة علي أن هذه الأمة يعيش فوقها شعب واحد، له عقل واحد، قلب واحد، وجدان واحد.. وذوق واحد. ومهما كانت الصورة قاتمة في القمة العربية، ومهما كانت الخريطة ممزقة والموقف الرسمي متفرقا فإن أم كلثوم أعطتني الأمل بأن القلب والعقل يمكن أن يظل واحدا، وأنه ينتظر فقط أن ينتفض لكن في ساعة ولحظة بالرغم من أنها قد تبدو غير قريبة لكنها غير مستحيلة.. أبدا! وأدرك أن الإحباط واليأس تمكن من غالبيتنا، لكن الأيدي التي تعمل كثيرة والتاريخ لا يعترف بالمستحيل. ** القمح لم نعد نغني للقمح مثلما حفلت الثقافة الشعبية بالأغاني الفلكلورية التي كانت تؤرخ بالفن موسم الحصاد واحتفالات الفلاحين بذلك، وقد أنشدت "الست" أم كلثوم "القمح الليلة ليلة عيده يارب يبارك ويزيده" وغني معها الشعب كله بكل بهجة وسعادة، كان حصاد القمح قيمة في حد ذاته كبيرة جدا وعيدا في جميع الارجاء تقام فيه حفلات الخطوبة والزواج والختان، وقت ان كانت السياسات تولي لما نزرعه ونأكله من أرضنا أهمية وأولوية. لكن أعجب في وقتنا الحاضر ونحن نستمع داخل جدران الغرف المغلقة لوزراء يدافعون عن فكرة استيراد القمح من الخارج من منطلق أنه أرخص من شراء القمح من الفلاحين وانه لا مشكلة في ذلك.. دون النظر إلي الابعاد الاستراتيجية لهذا الامر والخطورة الأمنية والاقتصادية علي تبعية قرار الغذاء عندما يكون مرهونا بالأسعار العالمية وتقلباتها وليس في أيدي ابناء الوطن ومن ارض الوطن. طبعا السادة الوزراء الذين يدافعون عن الجدوي الاقتصادية من استيراد القمح من الخارج سوف يتوارون ويخرسون ولن يجاهروا بهذه الآراء.. حتي في الغرف المغلقة بعد ان طالب الرئيس مبارك بضرورة التوسع في زراعة القمح والحبوب في أرضنا!!