التطور المتلاحق الذي تشهده العلاقات المصرية الروسية، خلال الأعوام الأخيرة، يشير إلي أن كلا من القاهرةوموسكو قد نجحتا في التوصل إلي مفاتيح اللغة المشتركة الوحيدة التي يفهمها العالم في زماننا.. لغة المصالح المتبادلة، في ظل علاقات تقوم علي التكافؤ والسعي المستمر لتعميق التفاهم بين الطرفين. لذلك كان النجاح اللافت للنظر الذي حققته زيارة الرئيس مبارك لروسيا الاسبوع الماضي متوقعا. وجاءت هذه الزيارة لتمثل الحلقة الرابعة من سلسلة زيارات مبارك لموسكو، والتي كانت اخرها منذ نحو عام ونصف العام "خريف 2006".. بينما كان الرئيس الروسي بوتين قد زار القاهرة في ابريل عام 2005. والمؤكد أن هذا الايقاع النشيط للقاءات علي مستوي القمة يعكس التقدم المتسارع الذي تحققه العلاققات بين البلدين، وخاصة في المجالات الاقتصادية والعلمية والتكنولوجيا بقدر ما يعكس حرص قيادتهما علي اعطاء دفعات جديدة مستمرة لهذا التقدم، الذي يعيد إلي الذاكرة الانجازات الكبيرة لتلك العلاقات في خمسينيات وستينيات وسبعينيات القرن الماضي، وإن كانت الظروف المحلية والاقليمية والدولية المحيطة بالعلاقات بين القاهرةوموسكو قد تغيرت بصورة شاملة. زيارة الرئيس كانت ناجحة إذن.. لكن إنجازها الأكبر بلاشك، كان توقيع اتفاق التعاون في مجال الاستخدام السلمي للطاقة النووية، وهو ما يسمح لروسيا بالمشاركة في بناء محطات توليد الكهرباء بالطاقة النووية في مصر حينما تتخذ القاهرة قرارها بالبدء في تنفيذ هذا المشروع النووي السلمي الكبير، الذي أصبحت التطورات في أسعار واحتياطيات البترول والغاز تفرض علينا بإلحاح ضرورة التقدم صوبه. وذلك فضلا عما يقدمه مشروع تطوير الاستخدام السلمي للطاقة النووية من ميزات وفرص علمية وتكنولوجية واقتصادية أخري بالغة الأهمية، في عديد من المجالات. ومعروف أن أول مفاعل نووي مصري للأبحاث "مفاعل انشاص" كان قد تم انشاؤه بخبرة روسية عام 1957. ولايزال يعمل بكفاءة حتي الان. كما تم تعليم وتدريب عدد كبير من العلماء والمهندسين المصريين في الجامعات والمعاهد والمفاعلات الروسية، علي مدي العقود اللاحقة، ولايزال هؤلاء الخبراء يمثلون العمود الفقري للبرنامج النووي المصري حتي الان. مزايا روسية ليس سرا أن الصناعة النووية الروسية قد تعرضت سمعتها لضرر كبير بسبب حادث تشيرنوبيل عام 1986. ولا يمكن بالطبع، التقليل من أهمية ذلك الحادث الخطير إلا أنه لا يمكن أيضا تجاهل حوادث خطيرة في مفاعلات دول أخري كحادث مفاعل جزيرة "ثري مايلز ايلاند" في الولاياتالمتحدة. كما لا يمكن تجاهل أن خبرة "تشيرنوبل" قد تم استخلاصها من أجل تطوير منظومات الأمان النووي في المفاعلات الروسية. ولم يقع أي حادث في عشرات المفاعلات الروسية، ولا غيرها من المفاعلات التي بناها الروس، منذ ذلك الوقت، وحتي الان. وعلي أية حال فإن الخبراء والمهندسين المصريين أو حتي الذين يمكن استدعاؤهم من الخارج يمكنهم اجراء دراسات شديدة التدقيق لمواصفات الأمان في المفاعلات الروسية الحديثة. والمؤكد أن قضية أمان المفاعلات النووية تتسم بأهميتها المطلقة.. وأنها من الموضوعات التي ستكون محل بحث شديد التدقيق لدي المفاضلة بين عروض مختلف الدول والشركات لبناء محطات الطاقة النووية. فإذا ما تم حسم قضية أمان المفاعلات النووية، تبرز قضايا أخري شديدة الأهمية بدورها كالتكلفة، وشروط السداد، وتدريب الكوادر الوطنية، وشروط وأسعار الامداد بالوقود النووي واستبداله، والتخلص من النفايات، وعدم استغلال بناء وتشغيل المفاعل لفرض شروط سياسية. ونعتقد ان الجانب الروسي يمكن أن يقدم شروطا أفضل من تلك التي تقدمها الولاياتالمتحدة "بوجه خاص" وغيرها من الشركاء الغربيين، خاصة فيما يتصل بالشروط السياسية، ونسبة المكونات المحلية في البناء والتجهيزات وتدريب الكوادر الوطنية. فالمعروف أن أمريكا تعتمد في هذا المجال سياسة "تسليم المفتاح" التي تعزل الجانب المحلي عن عملية البناء والتجهيز، والمشاركة في تشغيل وادارة المفاعل، وبالتالي تستبعد امكانية تطوير خبرات الكوادر الوطنية، ناهيك عن الشروط السياسية، والتكلفة الأعلي في الإنشاءات.. والتجهيزات وأجور الخبراء.. إلخ المنطقة الصناعية.. للأمام كان من أهم نتائج زيارة الرئيس مبارك لموسكو والمباحثات المهمة التي سبقتها علي المستوي الوزاري في القاهرة الاتفاق علي إزالة المعوقات التي تعترض طريق انطلاق تنفيذ بروتوكول انشاء منطقة صناعية روسية في برج العرب بالقرب من الاسكندرية. وهو البروتوكول الذي تم توقيعه في ابريل 2007.. أي منذ نحو عام، وقد تم الاتفاق خلال اجتماعات القاهرة اللجنة المصرية الروسية المشتركة، ثم مباحثات موسكو علي تهيئة الظروف الضرورية لبدء العمل في المشروع.