نعم "العدل أساس الملك".. كلمة أو حكمة لها سحرها عند المصريين.. فنحن أيا كانت مستوياتنا الوظيفية أو مراتبنا الاجتماعية نضع العدل والعدالة في أعلي مكانة وأقدس منزلة. ولم يكن العدل أو العدالة بغائبة عنا من حيث المضمون الثقافي أو السياسي أو الاقتصادي في عملية التنمية.. ذلك أن البعد الثقافي بما يشمله من مفاهيم وقضايا تتعلق بثقافة التنمية والنمو إنما تدور كلها حول قضية محورية هي العدالة فليس من المقبول أن يسعي الأفراد لتحقيق التنمية والنهضة في مجتمع من المجتمعات دون أن يتأكد الجميع أن تلك التنمية سيعود عائدها عليهم جميعا.. وإذا كان مطلوباً من الجميع أن يؤكد علي مفاهيم العمل والجودة والاتقان ومواجهة الإسراف والضياع ومحاربة الفساد والاتكالية أو الفوضي التنظيمية أو الإدارية.. فإن تلك المفاهم والقيم لا يمكن أن تثبت في بيئة تفتقر إلي مفاهيم العدل الاجتماعي وإذا رجعنا إلي النقوش والرسومات التي زينت الآثار التي تركها لنا الآباء فسوف نجد ميزان العدالة أحد أبرز هذه النقوش وتلك الرسومات بما يشير إلي أن العدالة كانت أحد المفردات الأساسية في عقيدة وحياة المصريين من زمن سحيق. ويوم تنخفض الدوافع الثقافية للتنمية فإن ذلك سيكون له تأثيرات سلبية علي مجمل الأوضاع المتعلقة بالمشاركة المجتمعية الفعالة، وليس أشد تأثيرا في انخفاض الدوافع الثقافية من غياب العدالة الاجتماعية. أما المضمون السياسي لعملية التنمية فهو ينصرف إلي توفر الإرادة السياسية في إحداث النمو والتنمية بكل أبعادها الاقتصادية والاجتماعية.. وتأتي العدالة الاجتماعية في صلب المضمون السياسي ذلك أن القادة ورجال السياسة لا يستطيعون أداء أدوارهم في المجتمع أو تسويق قضاياهم وخططهم وبرامج الإصلاح التي يضعونها بدون العدالة الاجتماعية لأنه بدونها يصبح المضمون السياسي للتنمية عديم الأثر والفاعلية حيث إنه يكون في هذه الحالة متحيزا لفئة أو طبقة أو مجموعة من أفراد المجتمع دون بقية الفئات أو الطبقات أو المجموعات وإذا صح أن القادة والسياسيون يكون لهم تحيز فإن هذا التحيز لابد أن يكون لجميع الأفراد لاسيما محدودي الدخل وهنا تأتي قيمة العدالة الاجتماعية التي يحرص عليها السياسيين لأنها تترجم تحيزهم وانحيازهم ومن ثم توجهاتهم ولقد أعلنت القيادة السياسية بكل وضوح أن تحيزها للسواد الأعظم من الناس ولمحدودي الدخل ومن هنا كان حرصها علي العدل الاجتماعي وعلي تدعيم شبكات الأمان الاجتماعي.. وهذا الانحياز إنما يصب في النهاية في صالح المجتمع بأسره.. لأنه من غير المتصور أن تكون الفئات ذات الدخول العالية في وضع يسمح لها بالاستقرار والأمان الاجتماعي في غياب العدالة الاجتماعية.. ومن هنا أيضا تأتي المسئولية الاجتماعية لرأس المال كقضية محورية في عمليات التنمية في كافة المجتمعات التي تتبني اقتصاديات السوق.. وإذا كانت هناك في هذا السياق نقطة جديرة بالملاحظة فهي ما يحرص عليه الأغنياء ورجال الأعمال في ظل اقتصاديات السوق من أداء مسئوليتهم الاجتماعية ليس باعتبار ذلك من باب الصدقة والإحسان ولكن من باب الضرورة والواجب.. وهناك ظواهر عديدة في مجتمعنا ونماذج مشرفة تشير إلي زيادة الاهتمام بجانب المسئولية الاجتماعية لرأس المال سواء في مجالات التنمية المجتمعية أو توفير فرص العمل أو رعاية محدودي الدخل أو إقامة المشروعات الاجتماعية المنتجة أو غيرها من منظومة السياسات والخطط الاجتماعية. أما المضمون الاقتصادي في عملية التنمية فإنه لا يمكن أن ينفصل عن البعد الاجتماعي والعدالة الاجتماعية ذلك أنه إذا كان صحيحا أن زيادة حجم الاستثمار ومعدلات الاستثمار ضرورة لتحقيق التنمية وزيادة معدلات النمو فإنه يعتبر صحيحا كذلك أن القضية ليست فقط في معدلات النمو ولكن أيضا في "نوعية النمو". ومن هنا تحتل قضية العدالة الاجتماعية بعدا خاصا في عملية التنمية باعتبارها أحد أساسيات تحسين نوعية النمو فعدالة توزيع عائد التنمية يستلزم الحرص علي تحقيق العدالة الاجتماعية.. وهناك أساليب عديدة لتحقيق تلك العدالة لعل من أهمها ما يلي: أولا: أدوات السياسة المالية وفي مقدمتها الضرائب التصاعدية والتي تعمل علي إعادة توزيع الدخول بطريقة تحسن من نوعية النمو. ثانيا: تحسين مستوي الخدمات العامة المتاحة لأفراد المجتمع في مجالات التعليم والصحة وغيرها من الخدمات العامة لأن هذا يعني في النهاية استخدام حصيلة الموارد العامة فيما يعود علي كافة الأفراد بغض النظر عن مستويات دخولهم بالفائدة والنفع.. فيوم يجد الفقير علاجا طبيا معقولا ومقبولا سواء بالمجان أو بتكلفة رمزية فإن هذا يدخل في نطاق العدالة الاجتماعية ويدعمها. ويوم يجد أبناء الطبقة الوسطي والفقيرة مدارس معقولة ومقبولة دون حاجة إلي دروس خصوصية فإن هذا مما يدخل في نطاق العدل الاجتماعي ويدعمه. ثالثا: الدعم العيني أو النقدي للسلع الضرورية وهنا فإن الارتفاع الجنوني العالمي في أسعار الأغذية والمحاصيل الزراعية وعلي رأسها القمح يدعونا للتأكيد علي أهمية الدعم وأن الحاجة إليه سوف تستمر.. ولقد أعلنت القيادة السياسية بكل وضوح أن الدعم باق وأن قيمته سوف تزداد.. لكن العدالة الاجتماعية تستلزم وتقتضي ألا يستفيد من هذا الدعم سوي المستحقين له.. ومن هنا فإننا مدعوون جميعا لكي نحدد من الذي لا يستحق الدعم وكيف نبعده عن الدعم أونبعد الدعم عنه.. لأنه ليس من العدالة في شيء أن تتحمل الموازنة العامة للدولة دعما من أجل الفقراء ومحدودي الدخل أو حتي أصحاب الدخول المتوسطة ثم نجد أن هذا الدعم يذهب إلي غير الفئات أو المناطق المستهدفة به. مرة أخري يجب أن يبقي الدعم وهو باق لكن يجب أيضا أن نحرص جميعا علي أن يذهب لمستحقيه فقط. وأنا لا أحدد مستحق الدعم هنا ولكن تلك قضية يجب أن يجري نقاش بشأنها ونصل إلي توافق لكي نحدد الفئات والمناطق التي يلزم أن يذهب إليها الدعم وكيف نؤمن مساراته لكي يصل إليها دون سواها. وإذا كانت قد حدثت في قضية "رغيف العيش" مظاهر وتجاوزات من تهريب الدقيق المدعم وبيعه في السوق السوداء لأن الفارق بين السعر المدعم وسعر السوق لهذا الدقيق كبير للغاية فإن المجتمع كله مطالب بأن يضع من الآليات والأساليب ما يسد هذه المنافذ للتهريب ويضع من قواعد الرقابة ما يكفي لمواجهتها وعندما يستشعر كل مسئول في أي موقع ويستشعر كل مواطن أن عليه مواجهة هؤلاء العابثين والمنحرفين ويوم نتوافق كمجتمع علي مواجهة الانحراف في القضايا التي تتعلق بأمن الوطن وحياة المواطن وضروريات الحياة فسوف يسود العدل الاجتماعي. إن هذا المنحرف الذي يبيع الدقيق المدعم في السوق السوداء إنما يبيعه لمنحرف آخر. وإني علي ثقة من أن تحرك المحافظين والقوات المسلحة والشرطة ورجال الأعمال سوف يحدث آثارا إيجابية وطيبة في هذا الشأن. أيها السادة العدل الاجتماعي ضرورة وهو مسئوليتنا جميعا وبدون استثناء.