يؤكد لنا خبراء الاقتصاد انه حينما نتطلع الي تحقيق معدل نمو للاقتصاد القومي تتجاوز نسبته 7% فإن طموحات هذا التطلع تتطلب توافر حجم من المدخرات القومية تقترب نسبته من 27% من اجمالي الدخل القومي، وذلك حتي يمكن توفير التمويل اللازم للاستثمارات الكفيلة بتحقيق هذا المعدل من النمو ولكن الحادث في واقع الاقتصاد المصري ان تلك النسبة لا تتجاوز حاليا بأي حال من الأحوال 19% وبالتالي يصبح لزاما علينا استجلاب النسبة الباقية بجميع الطرق المتاحة من الخارج، وذلك علي هيئة استثمارات اجنبية يتم تقديم جميع وسائل الجذب الممكنة لها ثم يتم استكمال الجزء الباقي علي هيئة قروض او معونات أجنبية وعربية. إلا أن تحريك الدخل القومي ودفعه نحو تحقيق معدلات نمو مرتفعة مطلوبة، لا يعتمد فقط علي ماكينات الاستثمار التي تدور حسبما يتوافر لها من أموال المدخرات المحلية والخارجية، انما هناك واقع آخر لا يقل أهمية في عملية التحريك والنمو، ونعني به هنا حجم الطلب الكلي علي السلع والخدمات، فعلي قدر هذا الطلب ينتج المنتجون ويوظفون العدد الملائم من العمال والموظفين اللازمين لإدارة انتاجهم، فإن زاد الطلب ارتفع مستوي الانتاج والتشغيل، وارتفع بالتالي مستوي الدخل القومي ككل، وفي حالة انخفاض حجم الطلب الكلي علي السلع والخدمات، فإن جميع عوامل الانتاج ستعمل بطاقة أقل من معدلها والمحصلة النهائية حدوث انكماش وانخفاض عام في مستوي الدخل القومي، وعلي هذا الأساس يمكن الجزم بأن مفتاح إدارة تشغيل العملية الانتاجية بأكملها يرجع إلي حجم الطلب الكلي، وحتي يمكن ان نستكمل تلك الدائرة المغلقة يقرر كينز الاقتصادي الانجليزي المعروف في نظريته التي أطلق عليها نظرية الدخل القومي، أن المحرك الأوحد الذي بيده التأثير والهيمنة علي كل من الطلب والادخار يكمن فيما يحصل الأفراد من دخول، أي أن ما ينفق علي السلع والخدمات الاستهلاكية من ناحية، ومن يتبقي بعد ذلك في يد هؤلاء من دخل بعد الاتفاق علي اشباع احتياجاتهم ويتم توجيهه للادخار من ناحية اخري، كلاهما يتأثر بشكل مباشر، ويزيد او ينقص تبعا للزيادة او النقص في اجمالي الدخل القومي. والخلاصة في هذه المقدمة ان دخل الفرد هو المؤثر وهو الحاكم في سلوكه سواء من حيث الانفاق أو من حيث الادخار، وان ما يؤثر علي الاستهلاك لابد وان يؤثر بالتالي علي الادخار، وانه عند مستوي دخل معين للفرد فإن أي زيادة في الاستهلاك سوف تكون علي حساب القدرة علي الادخار والعكس صحيح ايضا وبنفس المقدار. والراصد لانشطة البنوك العاملة في السوق المصري خاصة في المجال الائتماني، وما يحدث فيها من تطورات متسارعة سيجد ان اعمال التجزئة، ومنذ بدايات تسعينيات القرن العشرين تتنافس بشدة محمومة وتقدم في كل يوم ابتكارات ومنتجات جديدة معتمدة في ذلك وبشكل كبير علي ما حدث من تقدم علمي واسع في مجال الحاسبات الالكترونية وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات ووسائل الدفع الاليكترونية، وقد أذكت تلك المنافسة الشرسة بين البنوك - وسواء منها ذات التراث المصرفي المصري أو تلك البنوك الوافدة في التكالب علي تقديم هذا المنتج بجميع أشكاله. وللحق فإن الأرباح التي يمكن الحصول عليها من هذه النوعية من الانشطة تبدو جذابة للغاية، وقد قدرت مساهمة انشطة التجزئة المصرفية في أرباح بعض البنوك العاملة في الخارج والتي قطعت شوطا كبيرا في هذا المجال نسبة تتراوح ما بين 50% إلي 75% من اجمالي الأرباح المحققة. وتشمل اعمال التجزئة المصرفية منظومة متكاملة من الانشطة المصرفية الاساسية غير التجارية والتي تقدم للافراد الطبيعيين او ما يطلق عليه القطاع العائلي واصحاب الاعمال الصغيرة والمهنيين والمنشآت الفردية الصغيرة والذي تنحصر رغباتهم واحتياجاتهم في الحصول علي المنتجات والخدمات المصرفية الأساسية ولعل المنتجات المتعلقة بالائتمان تبرز كأهم هذه الانشطة واكثرها ربحية من جانب البنك واقبالا عليها من جانب الأفراد. وتتمثل هذه المنتجات المصرفية فيما يقدمه البنك من اموال لاشباع حاجة العملاء في الحصول علي ائتمان لتمويل عمليات شراء اصول ذات طبيعة استهلاكية مثل: المسكن، السيارة، الأثاث، السلع المعمرة أو علي شاكلة قروض شخصية او اصدار بطاقات ائتمان بغرض اقراض أموال للأفراد في شكل حدود سحب علي المكشوف لشراء أي شيء مهما تدنت قيمته، حيث يمكن بهذه البطاقة مثلا التسوق من محلات السوبر ماركت المنتشرة وشراء أية اشياء تافهة حتي المخللات واللب والترمس!! وبالتأكيد فإن ذلك سيكون علي حساب المدخرات الضئيلة بطبيعتها، والتي من المفترض ان تواجه للاستثمار حتي يمكن زيادة التوظيف وتحقيق نمو للدخل القومي. ** ولعل هذا هو ما يحدث بالفعل حيث اصبحت اموال المدخرات علي ندرتها، خاصة في المجتمعات النامية يتم رصدها لتمويل الانشطة الاستهلاكية علي حساب الانشطة الانتاجية والاستثمارية وتمويل عمليات التجارة ومن المؤكد فإن من شأن ذلك الحدد من توافر السيولة المطلوبة وحدوث اختناقات تمويلية لعمليات الاستثمار، مما يؤثر بالتالي علي ايجاد فرص عمل جديدة واعاقة خطط التنمية. ** والقول بأن ايجاد الطلب وزيادة القوة الشرائية التي تتيحها انشطة التجزئة المصرفية من خلال منح ائتمان يتيح تمويل هذا النوع من عمليات الشراء، والقول ايضا بأن من شأن ذلك انعاش السوق وبالتالي زيادة القدرة علي الاستثمار، ومن ثم ايجاد فرص عمل جديدة، فتكون المحصلة النهائية زيادة الدخول وارتفاع معدلات النمو، فإن جميع هذا القول مردود عليه بأن المؤثر الرئيسي علي عملية النمو انما هو ما تتيحه دخول الأفراد من قدرة علي الشراء وكذا قدرة علي الادخار تستطيع تمويل عمليات الاستثمار أما تدعيم القدرة الشرائية دون ان يحدث لصاحبها زيادة في الدخل، فإن ذلك سيكون بالتأكيد علي حساب مدخراته وبالتالي تقل فرص الاستثمار. ** وقد يحدث السيناريو الأكثر سوءا عند البنوك وهو عدم القدرة علي السداد في ظل عدم ارتفاع الدخل بمقدار الزيادة في القوة الشرائية، ومما يساعد علي انتشار هذا السيناريو توافر المخاطر الائتمانية التالية: أ - صعوبة الاستعلام عن مديونية مثل هؤلاء العملاء لدي البنوك الاخري في اطار طبيعة صغر حجم كل دين من هذه الديون، مما يترتب علي ذلك مخاطر حصول الشخص الواحد علي أكثر من قرض من أكثر من بنك. ب - مخاطر تعدي الشخص الواحد نسبة 25% من راتبه كأقساط سداد، في اطار التزام معظم البنوك بحد اقصي لقسط السداد بنسبة محددة من الراتب، خاصة وان بعض المراجع تشير إلي زيادة معدلات مديونية الأفراد بأكثر من معدل زيادة دخولهم، حتي اصبحت تشكل خطورة احيانا علي العملاء والبنوك، لتعدي هذه المديونية احيانا طاقة المتعاملين.