لقد وضعت الأزمة الاقتصادية العالمية العديد من دول العالم ومن بينها مصر في موقف صعب من حيث نقص الاستثمارات وبطء معدلات النمو المستقبلية.. وفي النصف الأول من العام المالي الحالي الذي انتهي في ديسمبر2009 انخفض حجم الاستثمارات الأجنبية المباشرة بنسبة35% ليصل الي2,6 مليار دولار, ولم تكن الاستثمارات الداخلية أفضل حالا.. فخلال هذه الأشهر الست انخفض حجم الواردات الرأسمالية والوسيطة بما يعطي موشرا علي انخفاض مواز في الاستثمارات المحلية.. وهذا الخفض في الأنشطة الاستثمارية فرض علي الحكومة زيادة في حجم أنشطتها التمويلية لمنع هبوط اقتصادي شامل, خاصة في الوقت الذي انخفضت فيه بالطبع عائدات الضرائب, والنتيجة الطبيعية هي زيادة العجز في الموازنة الذي من المتوقع أن تصل نسبته الي8,4% من حجم الدخل القومي في نهاية2010.. وتلجأ مختلف الحكومات لحل مشكلة عجز الموازنة الي الاقتراض لتمويل هذا العجز علي المستويات القصيرة والآجلة.. وكما ذكرت في مقال سابق فلقد اعتمدت الحكومة بشكل كبير علي البنوك لتوفير احتياجاتها من القروض حيث تشكل أذون الخزانة الآن نحو27% من الايداعات المصرفية المتاحة, التي لا تستطيع الوفاء باحتياجات الحكومة المتزايدة من القروض, فمن بداية السنة المالية حتي يناير2010 ارتفع حجم الايداعات بنسبة59,8% بينما تبلغ نسبة الزيادة في حجم أذون الخزانة لدي البنوك بنحو29%, ومالدي البنوك من الإيداعات لا يزيد علي60 مليار جنيه مصري كحجم للسيولة المتاح لتمويل الاستثمارات الخاصة والعامة الي جانب احتياجات القروض الحكومية بطبيعة الحال. ولكننا من ناحية أخري نجد أن هناك قناة متاحة للتمويل وفي أيدي المصريين أنفسهم, ففي تقرير البنك المركزي الذي أشار الي انخفاض حجم الواردات من السلع الرأسمالية والوسيطة, نجد ان حجم الواردات من السلع الاستهلاكية قد شهد ارتفاعا ملحوظا بما يعني توافر الأموال بين أيدي المواطنين, ولكنهم يتجهون الي الإنفاق الاستهلاكي بدلا من إدخارها وذلك لأسباب منطقية تماما, ففي حين تبلغ الفائدة البنكية علي إيداعاتهم نحو9% يدور رقم التضخم حول13%, وبهذا تكون نسبة الفائدة التي يقدمها القطاع المصرفي سلبية تماما بما لا يعد عنصرا مشجعا للادخار في الأوعية الادخارية التقليدية, ويشجع النشاط الاستهلاكي في المقابل, فالفارق بين نسبة التضخم ونسبة الفائدة علي مدخراتهم والتي تبلغ حوالي نحو4% يعني تآكلا سنويا لهذه المدخرات بنفس هذه النسبة.. والحكومة باعتبارها المقترض الأكبر هي المستفيد الأكبر أيضا من هذا الدعم التمويلي. إن آخر تقارير البنك المركزي تشير الي أن حجم الدين النقدي الداخلي في صورة أذون الخزانة تشكل70% من جملة الدين, ولكن علي الحكومة أن تتجه نحو إصدار سندات طويلة الأجل, فهذا يكفل للحكومة تخفيف الاعتماد علي البنوك في توفير احتياجاتها من القروض. فإن أرادت الحكومة جمع المال علي المدي الطويل في ظل محدودية الأموال المتاحة وزيادة الطلب من جانب الحكومة فتصدر سندات الخزانة مع رفع أسعار الفائدة للتعويض عن القيمة الزمنية للنقود.. فإذا اتيحت هذه السندات بسعر فائدة يزيد عن13% وهي نسبة التضخم الحالية فمستقبل جماهير المدخرين علي شرائها وان كان هذا يقود حتما الي ارتفاع أسعار الفائدة, وبالتالي ارتفاع أعباء خدمة الدين.. فالنقود سلعة تتحدد أسعارها صعودا وهبوطا بحجم الطلب عليها, ولكن من ناحية أخري ستتيح هذه السندات اتساع الفترة الزمنية لسدادها, بما يخفف الأعباء الجارية علي الموازنة العامة للدولة حتي يستعيد معدلاته العادية ومايتبعه من زيادة في حجم عائدات الضرائب وقد يؤدي أيضا الي تقليص حجم السيولة في الأسواق بشكل نسبي وبالتالي انخفاض ملموس في نسبة التضخم علي المستوي المتوسط. كما تمتد فوائد إصدار الحكومة لسندات طويلة الأجل تتراوح مدتها بين عشر وثلاثين سنة الي الأسواق الرأسمالية أيضا, بما تتيحه من خلق آلية واقعية لوضع منحني العائد يكون بمثابة الدليل الأساسي لتسعير مايصدره القطاع الخاص من سندات تمويل مشروعاته. وتطوير سوق السندات يعتبر أمرا جوهريا بالنسبة لاقتصاديات الدول بشكل عام وبالنسبة للاقتصاديات النامية بشكل خاص, حيث تسمح بخلق وسيلة جديدة أمام المدخرين لاضافة هذه السندات الي محفظتهم الادخارية الي جانب الايداعات المصرفية, تتيح أمام المؤسسات الخاصة وعاء جديدا للحصول علي مايحتاجونه من قروض بدلا من الاعتماد كلية علي القطاع المصرفي, بالاضافة الي إمكانية تسعير أوراقهم المالية بشكل أكثر دقة. وعندما نقول ان التضخم سيظل قائما حتي تستعيد معدلات النمو معدلات ماقبل الأزمة فإن ذلك لا يشكل نقدا للحكومة بأية حال, أو أن ماحدث كان نتيجة لسياسات خاطئة من جانبها, بل إن الأمر علي العكس فسياسات الحكومة الاصلاحية مند2004 نجحت في دعم البنيان الهيكلي للاقتصاد المصري, بما جعله أكثر مقدرة علي التعامل مع دورات الهبوط فأقل الخسائر, ولكن الاقتصاد المصري مهما تعددت وسائل حمايته سيظل جزءا من الاقتصاد العالمي, ورغم أنه لم يكن لنا أي دور في صنع أزمة السنوات الأخيرة إلا أننا تأثرنا بها علي مستوي عجز الموازنة الي جانب شراسة المنافسة لجذب الاستثمارات الدولية المحدودة, ولذلك فإنه من الحكمة أن تتجه الحكومة هذه الأيام الي الاقتراض بعملتها الوطنية وفي سوقها المحلية, خاصة وهي تستهدف زيادة في حجم انفاقها بما يدعم توجهها لدعم معدلات نمو الدخل القومي, فعندما تقرر الاقتراض لتمويل مشروعات تنموية فعلي الحكومة أن تمد الاطار الزمني لسداد أعباء هذه القروض وفقا لعوائد هذه المشروعات.