ما هذا الذي يحدث في مصر؟ هل من المعقول، في هذا الوقت الذي تواجه فيه البلاد تحديات مصيرية من الخارج والداخل، أن يترك البعض كل هذه القضايا الخطيرة المتعلقة بالسياسة والاقتصاد ومستقبل الأمة والوطن ليشغل الناس بكلام غث عن "ارضاع الكبير"، حيث لم يجد الدكتور عزت عطية رئيس قسم الحديث بكلية أصول الدين بجامعة الأزهر قضايا تهم المسلمين سوي الافتاء بأن للمرأة العاملة إرضاع زميلها في العمل منعا للخلوة المحرمة. ولم يكتف بذلك بل شاء أن يتوسع في التفاصيل مضيفاً أن إرضاع الكبير يكون خمس رضعات، وأن المرأة يمكنها أن تخلع الحجاب أو تكشف شعرها أمام من أرضعته، مطالباً بتوثيق هذا الإرضاع كتابة ويكتب في العقد أن فلانة أرضعت فلاناً! أي باختصار.. أنك لكي تتجنب المسئولية الشرعية لرؤية شعر زميلتك في المكتب والعمل تقوم برؤية ثديها، بل رضاعته بدل المرة خمس مرات! ثم لا تتوقف المهزلة عند هذا الحد، بل إن هذه "الفتوي" يتم تداولها، وإثارة الجدل حولها كما لو كانت مسألة جدية ومهمة، وينقسم الناس ما بين مؤيد ومخالف.. ولا يجري هذا الجدل في المجالس الخاصة والغرف المغلقة وإنما يجري علي الهواء في الفضائيات وفي الصفحات الأولي من الصحف السيارة.. تاركين قضايا الإصلاح الدستوري والسياسي والاقتصادي والثقافي، والتحديات الإقليمية والدولية، وكارثة العراق، ومصيبة فلسطين، وبلوي دارفور، وحتي استحقاقات انتخابات مجلس الشوري ومشاكل الديموقراطية التي ما إن نخطو علي طريقها خطوة للأمام حتي نرجع عشر خطوات إلي الخلف. كل هذه القضايا الحقيقية المتعلقة بالسياسة والاقتصاد، والفقر والغني، والاستراتيجية والأمن القومي، والعولمة المتوحشة والعولمة البديلة، والحوار مع الشمال وحوار الجنوب والجنوب.. كل هذا نتركه جانبا ونشغل الناس بتوافه الأمور ومسائل وهمية نستخرج فيها من التراث وسراديب التاريخ السحيق خزعبلات وحواديت أكل عليها الدهر وشرب. ولا نشغل أنفسنا فحسب بهذه القضايا الوهمية عن الأمور الجدية وإنما نقدم بأنفسنا للأمم والثقافات الأخري أسوأ صورة عنا وعن ثقافتنا وعن ديننا البريء من هذه الغثاثة وانحدار الذوق واحتقار العقل. ثم نشكو عندما يأخذ بعض الأجانب هذه الصورة المشوهة التي رسمناها نحن بأيدينا ويتندر عليها أو يستهجنها.. ونتهمه بالإساءة المتعمدة إلينا وإلي هويتنا رغم أننا نحن الذين أعطيناه السلاح الذي طعننا به! ثم إن مثل هذه التخريجات التي ما أنزل الله بها من سلطان تختزل تراثنا الحضاري والديني في مثل هذه الأمور الهزلية وتحجب الرؤية عن الكنوز الرائعة التي يزخر بها ديننا الحنيف وحضارتنا العريقة. ولو أن المسألة قد اقتصرت علي "فتوي" إرضاع الكبير لهانت المسألة. لكن الواضح اننا إزاء حملة شاملة لتشويه الوعي المصري وفرض ثقافة بالغة التخلف عليه تحتقر العقلانية والاستنارة. والواضح كذلك أن هذه الحملة تؤتي ثمارها المرة. والدليل علي ذلك عدد لا يحصي من المظاهر التي تؤكد أن المصريين قد أصيبوا ب "توله" شبه جماعية، جعلتهم مثلاً يتبركون بشجرة قيل إن اسم الجلالة قد ظهر علي جذعها، وبسرعة البرق سرت الأقاويل عن هذه "المعجزة" التي جعلت الآلاف المؤلفة من المصريين يتخلون عن عقولهم ويندفعون من كل حدب وصوب نحو هذه الشجرة، التي ليست سوي شجرة كافور عادية لا شيء يميزها عما عداها سوي أن أحد الأشخاص استخدم سكينا لكتابة لفظ الجلالة علي جذعها، شأنه في ذلك شأن آلاف المصريين الذين اعتادوا كتابة أسمائهم وأسماء حبيباتهم علي جذوع الأشجار في الحدائق العامة للذكري. فماذا حدث للمصريين حتي يفقد الآلاف منهم عقولهم بهذه الصورة شبه الجماعية ويعبدوا شجرة؟! خذوا مثلاً آخر.. حدث منذ أيام حينما قام بعض المصريين بحملة تحريض ضد أقباط إحدي القري قيل إنهم يحاولون بناء مكان لممارسة شعائرهم الدينية فيه. فما كان من البعض إلا أن أقام الدنيا ولم يقعدها وتحريض كل "مسلم غيور علي دينه" للتصدي لهؤلاء "الكفرة"، وكأن بناء كنيسة أمر يهدم الإسلام؟ وكأن وجود كنيسة ليس من الحقوق الأساسية للأقباط المصريين! وكأن ممارسة اتباع دين آخر لشعائر دينهم فيه تحد للإسلام. ولو أن هذه الحملة التحريضية جرت في مجتمع "مصحصح" لما كان لها أي تأثير، لكن لأن ثقافة التعصب والتخلف هي السائدة فإن العشرات اندفعوا رافعين شعارات الجهاد، مرددين هتافات "الله أكبر"، وكأننا عدنا إلي عصر الحروب الصليبية، وهجموا علي بيوت أقباط القرية وأضرموا فيها النيران، متصورين أنهم بهذه الهمجية يدافعون عن الإسلام في حين أنهم يقدمون في الحقيقة أكبر إساءة إليه وإلي سماحته. هذه مجرد أمثلة تعطينا مؤشرات علي أن العقل المصري ليس علي ما يرام، وأن هناك محاولات مستميتة من قوي ظلامية داخلية وخارجية تعمل ليل نهار علي قتل العقلانية المصرية وتدجين العقل المصري وجعله عبداً تابعاً للتفكير الخرافي. وهذا خطر حقيقي يستدعي التصدي، ويتطلب من البقية الباقية من المثقفين وحراس الثقافة المصرية الأصيلة، أن يهبوا دفاعاً عن عقل الأمة ورفضاً لمحاولات تغييبه، وأن يكفوا عن الامساك بالعصا من المنتصف وممالأة الظلاميين الذين يحاولون التستر وراء شعارات دينية، والدين الحنيف منهم براء.