جاء في صحيفة "الأهرام" أن خمسة أشخاص لقوا مصرعهم داخل إحدي البالوعات من بينهم ثلاثة من عمال الصرف الصحي أثناء قيامهم بعملية تطهير لها. وتبين أن سبب الوفاة هو اختناقهم داخل البالوعة..!! والحادث الذي لا يقع إلا في مصر ليس هو الأول من نوعه، فقد أصبح خبرا عاديا مكررا في الصحف، وحتي تفاصيل الحادث واحدة وهي نفس السيناريو في كل مرة حيث يسقط أحد الأشخاص في بالوعة أو يشعر بالاختناق ويسارع آخر إلي إنقاذه ليواجه نفس المصير ويهرع ثالث ورابع وخامس لتقديم المساعدة بلا خبرة أو دراية بالعواقب، ولا يخرجون جميعا من البالوعة إلا جثثا هامدة..! ولا نعرف كيف يمكن أن يحدث ذلك، وكيف يمكن أن يلقي أشخاصا مصرعهم بهذه السهولة.. والأكثر غرابة كيف يتكرر حادث من هذا النوع دون أن يتم تدريب العمال علي تلافي حدوثه وتحذيرهم من الوقوع في بالوعة..! إن المفترض أن العمال الذين يعملون في هذه النوعية أن يكونوا مدربين وأن يرتدوا أقنعة أو كمامات تحميهم وتوفر لهم هواء نقيا طوال مدة بقائهم في داخل البالوعة، وأن تكون هناك وسيلة سريعة جاهزة لإنقاذهم في الحال عند وقوع حادث..! ولكن يبدو أن ما يحدث هو تكرار لمثل الإهمال واللامبالاة بسلامة العامل في كل المهن والأعمال التي توكل إليه، ولو كان هناك حرص علي سلامة العامل لما كانت كل هذه الحوادث الغبية قد وقعت..! وإنه لأمر مثير للتعجب أيضا أن نعرف أن أحد الضحايا كان عمره 17 عاما فقط والآخر 19 عاما والثالث لا يزيد علي العشرين عاما، فأي نوع من التدريب تلقاه هؤلاء الشبان علي هذه الأعمال وأي قانون هذا الذي يوكل لشاب صغير عمره 17 عاما أن يهبط وحده إلي بالوعة للقيام بعملية تطهيرها حتي يختنق.. وأين هم الذين أسندوا إليه هذا العمل وهم يدركون صغر سنه وقلة خبرته..! والقضية علي أية حال لا تتعلق "بالبالوعة" وحدها وسقوط البشر فيها، فهي قضية منظومة بلا توجيه أو هدف أو إدارة سليمة.. والمتسبب فيها هو الاهمال الذي لحق بعمال الصرف الصحي حتي لقوا مصرعهم هو نفسه الاهمال الذي يتكرر كل يوم عند السماح لأتوبيس مثلا بأن يخرج به سائقه للعمل وهو يعاني من مشكلة في "الفرامل" أو تآكل في الإطارات، وحيث يندفع الأتوبيس بعد ذلك ليصطدم بالسيارات الأخري أو ينقلب ويسقط من أحد الكباري أو الجسور وتضيع منه أرواحا كثيرة، وهو نفس الاهمال الذي يسببه الكثير من حوادث القطارات، وهو نفس الاهمال الذي نتعامل به مع نقل اسطوانات الغاز التي أصبحت قنابل متحركة والتي تكرر انفجارها في داخل البيوت أو في الشوارع، وهو نفس الاهمال الذي نجده في كل مكان وعلي أي مستوي ويسبب الكثير من الكوارث والمصائب..! ولو كان هناك احساس بالمسئولية والخوف علي أرواح الناس ما كنا لنسمع كل يوم عن سقوط أحد الأشخاص داخل بئر المصعد في حادث كل واحد منا معرض له وهو أن ينفتح باب المصعد الذي يكون غير موجود لنهوي نحو الأعماق وتنتهي حياة إنسان في ثوان لأن عمليات الصيانة لم تكن سليمة أو لأنه لم يكن هناك صيانة عن الاطلاق..! وكل شيء في هذه المنظومة المتهالكة أصبح يدار "بالفهلوة" و"الجدعنة" و"التواكل" وهي صفات أصبحت ملازمة لشخصيتنا وحيث غاب عنا الدقة والاتقان في العمل، وغاب أيضا التخصص في الأداء وأصبحنا جميعا نفهم في كل شيء ونقوم بأي عمل مادام فيه "سبوبة" للتربح بعيدا عما قد يسببه ذلك من عواقب وخيمة علي الآخرين..! ولهذا تقدمت دول مثل اليابان والصين وكوريا والهند وماليزيا وتايلاند وأصبحت منتجاتها وصناعاتها في كل مكان بينما نحن نتراجع للوراء وصناعاتنا لا تستطيع المنافسة، والناس تقبل علي المنتج الأجنبي وهي واثقة تماما من جودته وتستخدم المنتج المحلي إذا لم يكن هناك غيره أو كانت مضطرة إلي ذلك..! وهذه المنظومة المتهالكة سببها إدارة عتيقة لا تتعامل مع الإدارة كنظم علمية ومدارس فكرية وخبرات عملية، وإنما تنظر إلي الهيكل الإداري علي أنه درجات وأقدميات ومحسوبيات وهو ما يجعل منها إدارة عتيقة غير قادرة علي العطاء والإبداع وتبحث فقط عن المكاسب الشخصية علي حساب العمل وجودته وسمعته، فاختفي مبدأ الحساب والعقاب أو التقدير والتشجيع والحوافز وحل بدلا من ذلك كله مفاهيم قاتلة للتملق والنفاق وإبداء الخضوع الزائف الذي يكون سلما للترقي وتبوؤ المناصب الأعلي..! وكلما كانت المنظومة تتدرج في البناء علي هذه المفاهيم فإنها لا تفرز إلا أسوأ العناصر الإدارية وأكثرها انتهازية ونفاقا وأقلها علما وكفاءة، وهو أمر يحدث في كل المجالات ولا يسبب إلا الاحباط ولا يعمق إلا اللامبالاة ولا يخلق مناخا صالحا للعمل ولا بيئة جيدة للعطاء..! ولهذا كل يوم هناك حادث جديد من الحوادث التي أصبحنا ننفرد بها والتي نتساءل معها كيف يمكن أن تحدث ولماذا تحدث؟ إن كل شيء قد أصبح قابلا للحدوث، ولم يعد الخبر متمثلا في كيفية وقوع الحادث وإنما الخبر الآن هو لماذا لم يقع الحادث.. ولا نجد ما نقوله إلا ربنا يستر، لكن يستر ليه إذا كنا لا نستر أنفسنا..! [email protected]