الأوضاع التي يعيشها العالم العربي والشرق الأوسط عموما كفيلة بتغيير الكثير من القواعد الراسخة لنظمها فكل وضع جديد حمل معه تصورات جري ربطها بمرحلتين احداهما قبلية والأخري بعدية، أي تمحيص هذا الوضع الجديد، وتحديد ما إذا كان قابلا للتفاعل مع ما هو قادم أو أنه أكثر انسجاما مع ما هو سابق فموضوع الديمقراطية هو أحد أهم الأوضاع الطارئة والمفروضة علي المنطقة باستمرار فالرؤي شديدة الانقسام حول مفاهيمها، غير أن الغوص في أعماق الواقع العربي يكشف النقاب عن حالتين متنافرتين لواقع الديمقراطية وفي كيفية النظر إليها النظرة الأولي تبدأ من قلب المجتمع لما يحتوي من مجموعات انتمائية واتحادات طوعية فالاتجاه العام لها العمل علي ايجاد مجتمع من دون حكومة وغالبا ما تكون الديكتاتورية السبب الرئيسي في دفع المجموعات إلي التفكير بسلخ المجتمع عن الدولة وخيارها الوحيد لذلك الفوضوية التي تعد بمثابة المثل الأعلي بالنسبة لها وبالتالي فإن مجتمع المجموعات الطوعية محكوم بالفوضوية وهو ما ينسحب علي ديموقراطيتها أيضا الديمقراطية الفوضوية تعتبر الحكومات والدول كيانات انضباطية جبرية وليست طوعية فجبر الأفراد علي نظام معين يعد إكراها لهم ما يحتم علي الفوضويين اقتلاع تلك الكيانات من جذورها كونها تمثل الشر المطلق لأفراد المجتمع والبديل عنها المجموعات والاتحادات المشار إليها لعل الوضع الحاصل في العراق يدلل علي النظرة الفوضوية ونظرة معتنقيها إلي شكل الدولة التي تناسبهم طبعا دون أن ننسي لبنان إبان الحرب الأهلية وما رافقها من فوضي أخفت الدولة وأظهرت المجتمع اللبناني علي شكل مجموعات منتمية طائفيا تجلت ديمقراطيتها عبر اتخاذها ما تشاء من قرارات دون الرجوع إلي الدولة فأغلب دول العالم عاشت الفوضوية فيما قبل مرحلة تأسيس الدولة وأوضح مثال علي ذلك العراق الآن لقد استدركت الإدارة الأمريكية الوضع العراقي وقراءته حسب قراءتها لواقعها السالف منذ ثلاثة قرون مضت فأطلقت لنا مصطلح الفوضي البناءة لاقناعنا بمساوئ الاستقرار الهدام الذي عاشه العراق أيام النظام السابق مثلما تعيشه دول المنطقة حاليا ولا يخفي أن الدول العربية عاشت الفوضوية في السابق لكن ليس كما هو عليه الحال في العراق اليوم والسبب أن الاحتلال في عهده القديم يختلف عن عهده الحديث ففي الاحتلال القديم حرصت الدول المحتلة علي منع انتشار الفوضي للمرحلة التي ستعقب خروجها فحافظت علي وجودها عن طريق أتباع لها في المنطقة لأن مصالحها تقتضي استقرار أتباعها إلي أقصي حد ممكن أمريكا حرصت بدورها علي الشيء ذاته، لكنها فشلت أمام فوضوية المجتمع الجديد المتشكل ما أرغمها علي الاعتراف به عن طريق الفوضي البناءة التي أطلقتها انقاذا لماء الوجه إذا ما سئلت يوما عن مصير الديمقراطية التي بشرت المنطقة بها فالديمقراطية الانضباطية تتناقض مع نظيرتها الفوضوية لتباين اتجاهات الحكومات الانضباطية مع اتجاهات المجتمع الفوضوي فمثلا التجمعات المدنية والأحزاب السياسية تشكل خطا أحمر لدي الحكومات الانضباطية اضافة إلي أن ديمقراطيتها تتحدد وفقا لعقائد معينة يؤمن بها جميع أفراد المجتمع وتشكل تطلعاتهم المنشودة نحو المستقبل تبعا لتصورات الحكومة لها إن المقارنة بين النظام الذي يدير دفة المجتمع الفوضوي والحكومة الانضباطية تقوم علي أن جزءا من الوفوضيين فضل الفردية علي الشمولية، أي قدم الرأسمالية وفكرة السوق علي الاشتراكية فالعمل أساس القيمة عندهم كما أن الممتلكات العامة ليست سوي أموال سرقتها الدولة ولا يمكن استرجاعها إلا عن طريق حل الدولة، بعكس الانضباطيين الذين فضلوا الشمولية علي ما عداها من نظم من هنا تبدو ديمقراطيتنا العربية متأرجحة بين كفة الفوضوية الناشئة التي بدأت تنبعث نحو المنطقة بعد أن استهلكت في موطنها الأصلي، وكفة الانضباطية ذات الجذور في حياة شعوب المنطقة مع رجحان كفتها وما ديمقراطيتها التي تدعيها إلا ذر للرماد في العيون.