د. محمد فراج أبوالنور بالرغم من أن التجربة النووية الناجحة التي أجرتها كوريا الشمالية يوم الاثنين الماضي (9 أكتوبر) لم تكن خارج نطاق توقعات المراقبين... فلاشك أن اجراء هذه التجربة جاء بمثابة لطمة مدوية للولايات المتحدةالأمريكية، سواء من زاوية مايمثله البرنامج النووي الكوري من تحدٍ لواشنطن علي مدي أكثر من خمسة عشر عاما.. أو من زاوية الشكل الدرامي الحاد الذي اتخذه إخراج " لحظة الذروة" علي مسرح "صراع الإرادات" الممتد بين واشنطن وبيونج يانج.. فبينما كان الرئيس الأمريكي وأركان ادارته يرغون ويزبدون ويتوجهون لمجلس الأمن مطالبين بفرض العقوبات إذا تجرأت كوريا الشمالية علي تنفيذ اعلانها بقرب اجراء تجربة نووية.. إذا بالكوريين ينفذون قرارهم خلال أيام قليلة من اعلانه، ضاربين بالتهديدات الأمريكية عرض الحائط. والواقع أننا لا نبالغ إذا اعتبرنا التجربة النووية الكورية الشمالية واحدة من العلامات الفارقة المهمة في مسار مايسمي بالنظام العالمي الجديد بزعامة قطبه الأمريكي الأوحد.. فقد جاء هذا الحدث المهم ليلقي بضوء ساطع علي حدود القدرة الأمريكية التي يتصورها البعض قدرة مطلقة.. والتي يروج الخبراء الاستراتيجيون المزعومون صباح مساء، خاصة في عالمنا العربي، لجبروتها المخيف ويعتبرون مجرد التفكير في تحديها بأية صورة من الصور نوعا من الجنون المطبق!! وليس في الأمر سر خفي أو معجزة.. فنجاح التحدي الكوري للغطرسة الأمريكية يكمن وراءه إرادة سياسية صلبة، وعمل دؤوب، واستثمار جيد لظروف اقليمية ودولية محددة وللثغرات الموجودة في النظام العالمي الجديد. عداء قديم ومعروف أن الولاياتالمتحدة تناصب النظام الكوري الشمالي العداء منذ أكثر من نصف قرن.. أي منذ انتهت الحرب الكورية (1950 1953) بفشل الولاياتالمتحدة في السيطرة الكاملة علي شبه الجزيرة الكورية بسبب المساندة الصينية والروسية الكبيرة للحركة الشعبية واليسارية في شمال شبه الجزيرة بقيادة حزب العمل "الشيوعي"، الأمر الذي أدي إلي تقسيم شبه الجزيرة، وقيام نظام اشتراكي متشدد شمال خط عرض17ْ تسانده الصين وروسيا، وهو الجزء الأفقر والأكثر برودة ووعورة من شبه الجزيرة، ويقيم فيه أقل من ثلث السكان.. بينما اقيمت في الجزء الجنوبي من شبه الجزيرة دولة كوريا الجنوبية "جنوبي خط عرض 17ْ" ذات النظام الرأسمالي التي اقامت فيها الولاياتالمتحدة قواعد عسكرية ضخمة يستمر وجودها حتي الاَن، وقدمت لها أمريكا واليابان مساعدات اقتصادية ضخمة مكنتها من بناء اقتصاد متطور جعلها في مصاف القوي الصناعية المهمة في العالم. وهكذا اصبحت الأمة الكورية الواحدة ذات الحضارة العريقة مقسمة بين دولتين متعاديتين تنتمي كل منهما إلي أحد المعسكرين المتواجهين في العالم.. إلا أن حلم الوحدة لم يفارق الكوريين في الشمال والجنوب علي السواء.. وإن كان كل نظام يتصورها في ظله هو بالطبع. وبعد انهيار الاتحاد السوفييتي وما كان يعرف بالمعسكر الاشتراكي في مطلع تسعينيات القرن العشرين بدا للولايات المتحدة أن القضاء علي النظام الكوري الشمالي اصبح مسألة سهلة، خاصة في ظل تخلفه الاقتصادي إذا ما قورن بكوريا الجنوبية.. وهكذا أخذت واشنطن تحاول احكام الحصار علي بيونج يانج وتعميق مصاعبها الاقتصادية، مستفيدة في ذلك من الظروف الدولية الأكثر مواتاة من جانب ومن اخفاقات النظام الكوري المتسم بقدر واضح من الجمود والتطرف الايديولوجي من جانب اَخر، ومتوهمة من جانب ثالث أن روسيا "المنقلبة علي الشيوعية" والصين "المتبنية لسياسات رأسمالية وبراجماتية" سوف تتركان هذا النظام لمصيره المحتوم.. وهي أوهام سرعان ما برهنت الأحداث علي خطئها الفادح، بل إن اليابان وكوريا الجنوبية المنخرطتين بوجه عام في فلك السياسات الأمريكية لم تلبثا أن بدأتا تبديان معارضتهما لتطرف واشنطن في عدائها لبيونج يانج، ومساعي الولاياتالمتحدة للتحرش بنظام كوريا الشمالية، وتهديداتها الصريحة بتوجيه ضربة عسكرية له. صراع الإرادات مع تزايد احساس النظام الكوري بمخاطر السياسة العدوانية الأمريكية في التسعينيات بدأ يتجه بقوة لتعزيز قدراته العسكرية خاصة برنامجه الصاروخي، كما بدأ يتجه لإقامة برنامج نووي ذي مطامح عسكرية، كسبيل لمواجهة أي عدوان مسلح يمكن أن تشنه أمريكا عليه انطلاقا من كوريا الجنوبية أو اليابان القريبة. ومن ناحية أخري سعت كوريا الشمالية إلي تعزيز علاقاتها التقليدية بروسيا والصين، وإلي اقامة علاقات تعاون عسكري مع الدول المتمردة علي الهيمنة الأمريكية وفي مقدمتها ايران وسوريا، ولم تبخل بيونج يانج بتكنولوجياتها الصاروخية علي دول أخري "غير متمردة" مقابل العملة الصعبة أو في اطار تنفيذ السياسات الروسية أو الصينية المناوئة للهيمنة الأمريكية دون أن تتعرض موسكو أو بكين للحرج المباشر بسبب نشر التكنولوجيا الصاروخية. واتخذت الولاياتالمتحدة من