عندما جرت الانتخابات في العراق في ظل الاحتلال الأمريكي تطوع عدد من الكتاب المصريين للدفاع عن هذه التجربة بحماس منقطع النظير. وذهب الحماس ببعضهم إلي القول بأنها أكثر الانتخابات "نزاهة" في العالم العربي. بينما شاء البعض التوسع في استنتاج الدروس من هذا الحدث "التاريخي" فقام بالترويج ل "نظرية" خلاصتها أن كل الانتخابات النزيهة في العالم العربي تمت في ظل الاحتلال بما في ذلك الانتخابات التي جرت في مصر تحت حراب الاحتلال البريطاني. وفي الأسبوع الماضي جاء إلي القاهرة وفد من القيادات العراقية التي تنتمي إلي تيارات ومدارس فكرية وسياسية متعددة. وجري حوار بالغ الأهمية بين هؤلاء العراقيين الذين قالوا إن ظروف الاحتلال والانفلات الأمني في العراق لا تمكنهم من الالتقاء مع بعضهم البعض علي أرض بلاد الرافدين، كما امتد الحوار الذي نظمه المركز الدولي للدراسات المستقبلية والاستراتيجية بقيادة اللواء أحمد فخر والدكتور عادل سليمان ليدور بين هذه القيادات العراقية وبين عدد من المثقفين المصريين في مقدمتهم الدكتور علي الدين هلال الذي أدار الحوار باقتدار وحيوية فائقة وأحمد ماهر وزير الخارجية السابق ومكرم محمد أحمد وجميل مطر وجمال الغيطاني والدكتور قدري حفني والدكتور وحيد عبد المجيد والدكتور نشأت الهلالي وعصام الدين رفعت والشيخ إسماعيل الدفتار والدكتور محمد عبد السلام وكاتب هذه السطور. وأعترف بأنني قد فوجئت بحيوية الحوار، وصراحته، وعمقه. وبصرف النظر عن القضايا التقليدية، مثل العلاقة بين الدين والدولة، والمحاصصة الطائفية، والفيدرالية، فإنني توقفت طويلاً أمام تقييم مختلف الأطراف للعملية السياسية التي تتوالي فصولها في العراق، وفوجئت بأن أهل مكة الذين هم أدري بشعابها يتحدثون عن أوضاع مناقضة علي طول الخط للصورة البراقة التي حاول بعض الكتاب المصريين ترويجها عن عراق ينعم بديموقراطية لا يتمتع باقي العرب بعشر معشارها. والملفت للنظر أيضا أن كل السياسيين العراقيين المشاركين في هذه الندوة رغم ما بينهم من خلافات وتناقضات اتفقوا علي أن الحديث عن ديموقراطية في العراق حاليا مجرد كلام علاقات عامة وضحك علي الذقون. وقد قدم الدكتور ظافر العاني المتحدث باسم جبهة التوافق ورقة مذهلة بهذا الصدد قال فيها: "كثيراً ما يذكر في أدبياتنا السياسية أن التجارب الديموقراطية العربية التي يشار إليها بالبنان هي وحدها التجارب التي تجري تحت ظلال الاحتلال. ويستشهد أولئك الكتاب بالتحولات الديموقراطية التي في فلسطين والعراق، ففيهما توجد تعديدية حزبية وتداول علي السلطة وانتخابات دورية. يضاف إلي ذلك أن في العراق اليوم دستوراً دائماً تم الاستفتاء عليه شعبياً. والأهم من ذلك أنك تستطيع أن تشتم أي مسئول دون وجل بعد أن لم يكن من حقك سوي أن تمتدح صدام، وفي العراق يحاكم رئيس سابق ويقف خلف القضبان فأية ديموقراطية أفضل من ذلك. ولا شك في أن كل هذه تعتبر مظاهر للديموقراطية، ولكنها في اعتقادي بالنسبة للتجربة العراقية لا تعدو ان تكون مظاهر ليس إلا. وما أصدق الرأي القائل باستحالة ان تتعايش فكرتان ونموذجان متناقضان في الوقت ذاته (الحرية والاحتلال)". ومن هذا الحكم العام انتقل ظافر العاني إلي التفاصيل فقال: "كلنا نتذكر أنه قبل الغزو الأمريكي للعراق، قدمت الإدارة الأمريكية مبررات عديدة لحربها علي هذا البلد ولكن الديموقراطية لم تكن من بينها وإنما حيازة نظام صدام لأسلحة الدمار الشامل وعلاقته بالقاعدة، وتهديده لجيرانه، ثم الرغبة في إحداث تغييرات استراتيجية جذرية في خارطة الشرق الأوسط. ولكن تهاوي هذه المبررات الواحد تلو الآخر جعل هدف الديموقراطية يقفز إلي السطح كمبرر أخلاقي تقدمه الإدارة الأمريكية لشعبها وللعالم. وهكذا، تم تسليط الضوء بشكل مكثف علي حالات القمع التي حدثت في عهد صدام الذي وصف بأنه الشخص الأكثر استبدادية ووحشية في العالم، وبأن العراق لم يعرف في عهده سوي منهج القتل فأصبحت المقابر الجماعية الصورة الأكثر رسوخاً في الذهن عن نظام صدام.