علمتني باريس كثيرا، علمتني قيمة ان يكون الانسان متذوقا لمعني ومسئولية كلمة "الحرية" فما زلت اذكر هذا اليوم القديم الذي وطئت فيه اقدماي مطار اورلي - قبل ميلاد مطار شارل ديجول - وكنا في صيف عام 1965. وكانت شمس يونية تشرق بدرجة من الوضوح الناصع عبر زخات من المطر الذي يضفي علي باريس صيفا درجة من الجمال يصعب ا ن تجدها في اي مكان في العالم، وعلي الرغم من ان هل باريس يبدأون في كراهية الحياة فيها من اوأئل يونية وحتي نهاية اغسطس الا ان باريس تستقبلك ككائن يمكن ان تكون زائدا عن حاجتها ما لم تكن لك علاقة بالفن والثقافة ويمكن ان تفتح لك ابواب اللقاء مع مفكريها علي تنوع اتجاهاتهم ان كان في قلبك اسئلة يمكن لهؤلاء ان يجيبوا عنها. اتذكر - علي سبيل المثال- كيف وقفت في طابور متحف اللوفر ومعي جواز سفري كصحفي ففتحوا لي بابا خاصا لان الصحفي عندما يزور متحفا فيه موجز لتاريخ الحضارة من لوحات ومقتنيات سيهذب من روحه ورؤيته حتي ولو لم تكن كتاباته عن الفن او عن الحضارة. واتذكر كيف جريت بسرعة من امام لوحة الجيوكندا التي رسمها دافنشي لا لشئ الا لزحام من يرونها وعدم دقتهم في رؤية حقيقتها ودافنشي هو واحد من ا كبر الغاز العقل البشري وهو من اتحدت روحه ومشاعره مع عقله ليعيد نقل ما في المستقبل ليهديه الي الواقع المعاش واقتصار شهرته علي مجرد لوحة رسمها كان ومازال من وجهة نظري هو نوع من الابتذال الذي يجب مقاومته فمن ينكر رسومه التي تخيل فيها الانسان وهو يطير ومن ينكر تصميماته للغواصة ومن ينكر قصصه التي تربي خيال الاطفال لرؤية ما حولهم في هذا العالم؟. اتذكر ان جولاتي في متحف اللوفر استمرت لمدة خمسين يوما كاملة اصحو من الصباح حتي الخامسة مساء وانا لا عمل لي سوي المشاهدة الدقيقة لهذا المتحف العملاق واتذكر لحظة التقدم الي باب الدخول وتقديم جواز السفر كصحفي فتنفتح الابواب واتذكر تكرم العديد من الحرس الذين لاحظوا حضوري يوميا وكيف قدموني الي المسئولين عن المتحف ففتحوا لي قلوبهم وعلي الرغم من اعلاني للجميع اني اجهل اللغة الفرنسية الا انهم حدثوني بالانجليزية التي لا يفضلونها ولكنهم اعتبروا ان زيارتي لمتحف اللوفر قد تكون بداية كي اتعلم الفرنسية. وحين بلغ عدد الزيارات الخمسين زيارة قررت ان ازور معارض الفنانين الكبار وكان جواز السفر هو الذي يفتح لي ابواب المعارض ويعطيني الحق في رؤية لوحات براك علي سبيل المثال ولوحات بيكاسو الشهير والمزعج كما اعطاني جواز الصفر كصحفي مقعدا في مسرحيات كان الحجز فيها لشهور وهم يحتفظون حتي اللحظة الاخيرة بعدة مقاعد للصحفيين وللمهتمين بالفنون كي يشاهدوا العروض المسرحية دون ابطاء او تأجيل. اتذكر كل ذلك وانا اتصفح كل يوم قبل ان انام المجلدات الثلاث التي تمت ترجمتها ونشرها بالعربية بعنوان "جامعة كل المعارف" وهي عبارة عن كيفية احتفال باريس بمجيء العام 2000 حيث كان مسرح الكونسيرفتوار هناك يري في كل يوم عالما متخصصا في علم ما يقدم ما اضافة القرن العشرون الي فرع هذا العلم وتم جمع كل تلك المحاضرات ونشرها بعنوان جامعة كل المعارف وامر بترجمتها د.جابر عصفور في المشروع القومي للترجمة. اتذكر باريس دائما بالعرفان لما أضافه لي دون ان تبخل علي وجودي بأي فكرة جديدة ولها تاريخ. أحيانا تطل عليك مدينة تطلب منك ان تشكرها وقد فعلت باريس ذلك وكانت هي السبب في كتابة هذه السطور.