أخيرا انتهت المعركة علي الأقل من الناحية التعاقدية وان كان في تقديري ان نتائجها وتداعياتها وتعقيداتها ستتواصل.. واعتذرت الادارة الأمريكية عن تنفيذ الاتفاق الذي كانت قد وافقت عليه بقيام شركة دبي العالمية بالاشراف علي تنظيم ستة موانئ امريكية وفي نفس الوقت -وحفظا لماء الوجه- أعلنت شركة دبي انها اتفقت مع الشركة البريطانية التي اشترت منها حق الاشراف علي الموانئ الامريكية الغاء والصفقة. وهكذا أصبح سلامة في خير والخير في سلامة ويا دار ما دخلك شر ولكن الكثيرين يعتقدون ان الامر لن يكون كذلك لان ما جري في الولاياتالمتحدة احتجاجا واعتراضا يرقي الي الثورة علي هذه الاتفاقية يحمل الكثير من المعاني وله الكثير من التداعيات التي تمس جوهر القيم الرأسمالية الأمريكية نفسها.. والولاياتالمتحدة التي تدعو الي حرية التجارة وفتح الاسواق بلا حدود والمنافسة الحرة بلا قيود وتبشر بقيم الانفتاح الرأسمالي الواسع في الخصخصة وتشجيع القطاع الخاص واقصاء الدولة عن اي نشاط اقتصادي هي نفسها التي ثارت وماجت وازبدت وعربدت حينما اعلن عن الصفقة الخاصة باشراف الشركة العربية في دبي علي إدارة الموانئ الامريكية.. واجتمع الكونجرس واجتمع مجلس الامن القومي واجتمعت القيادات الاقتصادية واجتمع رجال البنتاجون- وزارة الدفاع وكلهم فيما عدا وزارة الخارجية أعلنوا الرفض القاطع المانع لقرار الإدارة الامريكية وذلك تحت دعوي ان تدخل أي رأسمال اجنبي- وعربي علي وجه الخصوص في ادارة هذه الموانئ هو بمثابة خلل للامن القومي الامريكي حيث انها لها اهمية استراتيجية. كلام كثير بعضه يصل الي درجة السخرية المريرة قاله اعضاء في الكونجرس بل ومن قيادات الحزب الجمهوري الحاكم بل ومن داخل الحلقة الضيقة لقيادات المحافظين الجدد الذين يتحكمون في ادارة البيت الابيض وكله يصب في وعاء الرفض لهذه العملية التي اعتبرها رئيس الاغلبية الجمهوري في الكونجرس الامريكي يمس المصالح أمريكا الحيوية بينما قال الجمهوري المتعصب عضو الكونجرس جيري ليوبيس ان المصالح الامريكية يجب ان تظل في ايدي امريكيين بل ويتقدم بمشروع قرار لتققيد حرية الرئيس الامريكي في اتخاذ قرارات اقتصادية مصيرية الا بعد موافقة الكونجرس. بل ان ليونيس -وهو عضو بارز في جماعة المحافظين الجدد- اتهم الرئيس الامريكي جورج بوش بانه يبيع امريكا وأمنها بموافقته علي تلك الصفقة بينما اكد رئيس لجنة القوات المسلحة في الكونجرس علي ضرورة ان تبقي المؤسسات القومية المهمة دائما في ايدي الامريكيين دون سواهم. نشرت اجهزة الاعلام الامريكي المرئية والمقروءة اسبابا عديدة لهذا الرفض منها القول بان اشراف شركة عربية علي ادارة تلك الموانئ الحيوية المهمة يفتح الباب واسعا امام الارهابيين -المسلمين واثارة الحساسيات والتذكير بالملابسات التي واكبت احداث الطائرات في سبتمبر الدامي 2001 في نيويورك وواشنطن. بينما أعلن الرئيس الأمريكي الديمقراطي الاسبق جيمي كارتر مساندته للصفقة وفقا للقوانين الامريكية السائدة والتي تعمل امريكا علي تطبيقها في العالم وتقدم محطة "سي. ان. ان" CNN تفسيرات اخري تنفي فيها ان الاعتراض الامريكي علي الصفقة ليس لان الشركة التي ستتولي الاشراف هي شركة عربية لكن الاعتراض انصب علي مفهوم الادارة الاجنبية لببعض المرافق المهمة الحيوية. وبتراجع الادارة الامريكية عن الصفقة وتنازل الشركة الخليجية عن شراء هذا الحق طويت صفحة الاتفاق ولكن صفحات جديدة اخري فتحت في نفس الوقت لتسجل ان امريكا قائدة الرأسمالية المتبصرة تراجعت عن جوهر الانفتاح الرأسمالي الذي حاولت ان تفرضه علي العالم كله بعد تفكيك الاتحاد السوفيتي وانهيار الثنائية الوطنية. علي ان هذا الاتجاه الخاص بالعودة الي جماعة ما يسمي بالمصالح الوطنية العليا ضد الخصخصة وملكية رأس المال الاجنبي لم تقتصر علي الولاياتالمتحدة بل انه يجري في العالم الرأسمالي كله بل وفي اوروبا وتحديدا في دول الاتحاد الاوروبي التي تحاول الانتقال سياسيا واقتصاديا الي صيغة الوحدة الشاملة بعد انشاء البنك المركزي الاوروبي وتوحيد العملة وانشاء كيانات سياسية واقتصادية موحدة مع فتح الحدود امام انتقال الافراد ورأس المال. ففي فرنسا وقف رئيس الوزراء -دي فيلبان- ضيد قيام شركة ايطالية بشراء شركة -السويس الفرنسية- وهي شركة خاصة بالمياه والطاقة وسارع دي فيلبان الي دمج شركة السويس مع الشركة الفرنسية العملاقة المملوكة للدولة -جازدي فرانس- وذلك لقطع الطريق علي العرض الايطالي في فرنسا ايضا اعلنت الحكومة الفرنسية بالاشتراك مع دوقبة لوكسمبرج انها ترفض العرض الذي تقدمت به شركة المانية للصلب لشراء شركة اركيلوس للحديد والصلب. وفي ايطاليا اعلن البنك المركزي الايطالي مؤخرا عددا من القواعد والشروط التي تستهدف منع الاجانب من شراء البنوك المملوكة للدولة بينما اعلنت الحكومة الاسبانية رفضها لعرض الماني لشراء شركة -انديسا- الاسبانية للخدمات والطاقة اما في بولندا فقد رفضت الحكومة مشروع الصفقة من البنك المركزي الايطالي والبنك الالماني في بولندا المملوك للدولة علي اساس ان البنك مدعوم من قبل الدولة ويحتوي علي نسبة عالية من مدخرات البولنديين. الايكونوميست: عودة للماركسية! وهكذا تسير الأمور فيما سمته الايكونومست اتجاها جديدا لتدخل الدولة لوقف صفقات لشراء مؤسسات اقتصادية مهمة من جانب دول اجنبية حتي ولو كانت عضوا في الاتحاد الاوروبي الي درجة ان مجلة الايكونومست تفسر ذلك بانها عودة مفاجئة للاخذ بافكار كارل ماركس في الحرص علي ممتلكات الدولة وشركاتها وتأكيد دورها الاقتصادي في مواجهة الغزو الرأسمالي الاجنبي وذلك تحقيقا للنظرية الماركسية التي تربط بين الملكية والاستغلال. الغريب ان اللاعبين الكبار في الملعب الرأسمالي العالمي هم الذين يقومون بحماية ممتلكاتهم ضد أي وافد من بعيد فيما لا يكفون صباح مساء عن الدعوة الي الاسواق المفتوحة بلا حدود والمنافسة الشرسة بلا قيود والخصخصة الواسعة. والسؤال موجه الي الوزير الشاب د.محمود محيي الدين والمتحمس للخصخصة الواسعة هل مازلت عند رأيك بضرورة خصخصة كل شيء والقضاء علي ما سميته بعبع القطاع العام.. في الساحة الرأسمالية معلنين ان مؤسساتهم الاقتصادية ليست للبيع!