يثير كثير من السياسيين في أوروبا والولايات المتحدة هذه الأيام جلبة لا داعي لها حول صفقات الاستحواذ التي تقوم بها شركات أجنبية في بلادهم وهي جلبة تدعي الغيرة علي "المصالح الوطنية" ولكنها في الحقيقة تحمي المصالح الخاصة لهؤلاء السياسيين وأصدقائهم في مجتمعات الأعمال. وتذكر مجلة "الإيكونوميست" أن الأسابيع الأخيرة شهدت هجوم السياسيين الأمريكيين ضد فوز إحدي الشركات الإماراتية بعقد إدارة 6 من المواني الأمريكية الكبري.. وقد انصب الهجوم علي أن هذه الشركة الإماراتية قد تعرض الأمن الأمريكي للخطر بدعوي عدم قدرتها علي اتباع إجراءات أمن صارمة في تلك المواني تمنع تسلل الإرهابيين عن طريقها.. والحقيقة مع ذلك هي أن هؤلاء السياسيين يريدون منح هذا العقد لبعض الشركات الأمريكية. وفي فرنسا يتحرك رئيس الوزراء دومينيك دوفيلبان بتهور لترتيب اندماج بين شركة جاز دي فرانس المملوكة للدولة وبين شركة الطاقة سويز الفرنسية أيضا وذلك لسد الطريق أمام شركة إيطالية تقدمت بعطاء لشراء سويز. وفي أسبانيا تتحرك الحكومة الأسبانية لعرقلة عطاء ألماني لشراء شركة انديزا للكهرباء والطاقة.. وفي بولندا تحاول الحكومة البولندية منع صفقة اكتساب إيطالية لبنك ألماني يعمل داخل بولندا لأنه يتضمن أيضا شراء عدة فروع بولندية.. وعلي جانب اَخر تعمل حكومتا لوكسمبورج وفرنسا علي منع شركة ميتول من شراء شركة اركيلور للصلب التي تحمل جنسية ثلاث دول هي فرنسا وبلجيكا ولوكسمبورج. ومن الواضح أن موجة الاندماجات والاكتسابات العابرة للحدود صارت تثير صراعا بين قواعد العولمة وبين مشاعر التعصب الوطني.. وفي رأي أنصار فتح الأسواق أمام حركة السلع والخدمات ورأس المال فإن هذه التحركات السياسية ليست سوي تحركات يائسة وأن كثيرا من صفقات الاندماج والاكتساب العابرة للحدود سواء في أوروبا أو غيرها تحدث دون أن يستطيع أحد اعتراضها. ولكن دعاة الدفاع عن المصالح الوطنية يدعون أن الشركات الأجنبية الوافدة عليهم ستكون بمثابة عميل لحكومة بلدها الأصلي ولذلك فهم يرون أن اندماج شركتين فرنسيتين أو أسبانيتين أمر لا غبار عليه أما اجتياح شركة فرنسية أو أسبانية عن طريق شركة ألمانية فهو أمر غير مرغوب فيه. وتقول مجلة "الإيكونوميست" إن الادعاء بحماية المصالح الوطنية في أوروبا أمر يناقض قانون السوق الأوروبية الواحدة وروح الاتحاد الأوروبي.. كما أن محاولة حماية الشركات الأوروبية من نظيراتها داخل الاتحاد الأوروبي يشبه الادعاء بأن شركات صناعة الزبادي تعد من الأصول الاستراتيجية التي يجب حمايتها من الوقوع في يد الأجانب. والحقيقة أن موجة الاندماجات والاكتسابات الأوروبية العابرة للحدود هي موجة لن يمكن هزيمتها لأنها ثمرة سنوات إعادة الهيكلة الصعبة التي عاشتها الشركات الأوروبية منذ عام 2000.. وهذه الموجة تكتسب قوة دفع هائلة منذ عام 2004 بفضل عاملين أولهما الزيادة الكبيرة في أرباح الشركات.. وثانيهما الائتمان الرخيص.. ولذلك فإن حجم صفقات الاندماج والاكتساب التي تمت في عام 2005 قد وصل إلي تريليون دولار وينتظر أن يزيد علي ذلك في العام الحالي 2006. وخلال شهري يناير وفبراير من العام الحالي كان حجم صفقات الاندماج والاكتساب العابرة للحدود نصف إجمالي صفقات الاندماج والاكتساب الأوروبية علي وجه الإجمال، ويرجع ذلك إلي النشاط الأوروبي المتزايد نحو إيجاد سوق واحدة في مختلف الصناعات.. ولا أحد ينكر أن الاندماجات قد تكون ذكية أو غبية داعمة للمنافسة أو داعية للاحتكار ولكنها في كل الأحوال يتعين أن تكون قراراتها قرارات اقتصادية وليست قرارات سياسية. ويمكن القول بأن معركة الاندماجات والاكتسابات سالفة الذكر هي في واقع الأمر معركة بين القوي الحمائية وقوي الوطنية الاقتصادية من جانب وبين قوي العولمة وإعادة الهيكلة من جانب اَخر. وبرغم أن الاتجاهات الحمائية قد تتصاعد في الأشهر القادمة فإن قوة دفع الشركات في اتجاه فتح الأسواق تفوق اهتمامات الحكومات بغلق الأسواق سواء في أوروبا أو غيرها من مناطق العالم. والأمر المؤكد أن الشركات سوف تستفيد من فكرة السوق الواحدة كلما استطاعت إلي ذلك سبيلا.. والقضية هي ما إذا كانت الحكومات ستتمكن من إعاقتها أم لا؟ وفي التجربة الألمانية للإصلاح لاحظنا أن الحكومة لم تكن حاسمة بما يكفي ولكن الشركات مضت في طريقها غير عابئة من أجل إعادة الهيكلة وخفض التكاليف والاستغناء عن العمالة.. ولذلك انتعشت في ألمانيا الروح التنافسية وثقة الشركات.. ولكن الاعتماد علي جهود الشركات وحدها في الإصلاح سيكون ثمنه ارتفاع معدل البطالة، ومن هنا صار متعينا علي الحكومات أن تتعاون وعلي السياسيين أن يكفوا عن دعاويهم المناهضة للإصلاح والعولمة وفتح الأسواق.