أعلنت "مبادرة الشراكة الأمريكية الشرق أوسطية" يوم الجمعة الماضي عن تخصيص خمسة ملايين دولار لتسريع الاصلاحات في سوريا وجاء في البيان الصادر عن مكتب الناطق باسم وزارة الخارجية الامريكية ان المبلغ الذي سيكون علي شكل منح تتراوح الواحدة ما بين 100 الف دولار ومليون دولار سيقدم لبناء المجتمع المدني في سوريا ودعم المنظمات التي تدعو الي الممارسات الديمقراطية مثل حكم القانون ومحاسبة الحكومة والوصول الي مصادر المعلومات المستقلة وحرية تشكيل الجمعيات وحرية التعبير واجراء انتخابات حرة ونزيهة وتنافسية. والمعروف ان "مبادرة الشراكة الامريكية الشرق اوسطية" اعلنها الرئيس الامريكي جورج بوش عام 2002 بهدف دعم جهود الاصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي في الشرق الاوسط. وفيما يتعلق باعلان يوم الجمعة فليس هناك من يمكنه ان يعارض تصريح اليزابيث تشيني نائبة مساعد وزيرة الخارجية الأمريكية لشئون الشرق الاقصي "شعب سوريا يستحق فرصة لبناء مستقبل افضل والعيش بحرية" كما لا يمكن لعاقل ان يرفض شعارات الديمقراطية والحرية ودعاوي الاصلاح التي تتطلع الشعوب الي تطبيقها بما يحقق مصالحها غير ان اي منصف لا يستطيع ان يشكك في ان هذا التصريح وهذه الشعارات عندما تنطلق من واشنطن بالتحديد تصبح من قبيل كلمة الحق التي يراد بها باطل فالتطورات التي شهدتها منطقتنا منذ انتهاء عصر الحرب الباردة تؤكد يوما بعد يوم ان آخر ما تهدف اليه الادارة الامريكية في المنطقة هو قيام نظم ديمقراطية حقيقية فيها. ومن الواضح ان الضغوط علي سوريا ليست سوي محطة علي طريق جهود الادارة الامريكية الحثيثة بهدف تنفيذ مخططاتها التي أعلنتها بصراحة علي لسان مسئوليها في اكثر من مناسبة لاعادة رسم خريطة المنطقة واقامة ما يسمي "الشرق الاوسط الكبير" الذي كان شيمون بيريز اول من دعا لاقامته عام 1994 بما يضمن وضعا اقليميا متميزا ومهيمنا لاسرائيل ومن البديهي ان اقامة النظام الاقليمي الجديد يتطلب القضاء علي احلام قديمة كانت تراود البعض فلم يعد من اللائق الآن الحديث عن اقامة وحدة عربية او سوق عربية مشتركة بعدما تقرر ان يصبح الجميع "شرق اوسطيون" ويكفي ان نعلم ان مراكز الدراسات الأمريكية ومن ابرزها المركز الامريكي لدراسات الشرق الاوسط قررت استبدال مصطلح "الدول العربية" بمصطلح آخر ذي مغزي هو "الدول الناطقة بالعربية" ولا يستغرب بالطبع ان تواكب هذا التوجه نزعات شعوبية طائفية في المنطقة تنقلب علي رابطة العروبة وتتنكر لها من دعاوي الاكراد والتركمانستان في العراق ودعوي فينيقية اللبنانيين وفرعونية المصريين وامازيغية دول شمال افريقيا التي تسمي -حتي الآن- دول المغرب العربي كما لا يستغرب بالطبع ان تكون سهام تغيير الانتماء العربي موجهة في المقام الأول الي البلدان التي رفعت في سنوات خلت لواء العروبة بداية من مصر ثم العراق وصولا الي سوريا الآن. حق يراد به باطل وعلي الرغم من ان احدا لا يمكنه ان يجادل في حاجة جميع بلداننا العربية ومنها سوريا بالقطع الي الكثير من الاصلاحات السياسية والاقتصادية ايضا الا انه لا يمكن لساذج ان يصدق ان الادارة الامريكية تؤرقها رغبة الشعب السوري في الاصلاح وتشغل بالها متاعب السوريين فتتصدي -رغم ما تعانيه من أزمات نجمت عن تورطها في المستنقع العراقي- لتقديم كل ما تستطيعه من عون وتقف بحزم الي جانب الرجال والنساء المقدامين الذين يناضلون من اجل حرياتهم في الشرق الاوسط بما في ذلك سوريا علي حد تصريح اليزابيث تشيني. ولا شك ان الضغوط الامريكية علي سوريا حملت اقوي الدلائل علي جرأة الامريكيين علي الكيل بمكيالين دون ان يرف لهم جف فعندما اصر بوش علي وجوب انسحاب سوريا من لبنان قبل انتخابات مايو القادمة "حتي يمكن ان تكون هذه الانتخابات حرة وعادلة" لم يستمع الي التساؤلات عن السبب في عدم اثارة مثل هذه النقطة بالذات امام الانتخابات التي اقيمت في العراق المحتل حيث لدي الولاياتالمتحدة 140 الف جندي يتجولون في شوارع العراق مقارنة باربعة عشر الف جندي سوري في جبال لبنان ولماذا يجب ان تلتزم سوريا مباشرة بقرار الاممالمتحدة الذي ينادي بانسحابها من لبنان بينما قرارات نفس الاممالمتحدة التي تطالب اسرائيل بخروج قواتها من المناطق السورية والفلسطينية المحتلة جري تجاهلها لمدة 38 عاما دون اعتراض امريكي ولماذا ايضا لم يطالب بوش اسرائيل بالانسحاب من المناطق الفلسطينية المحتلة قبل اجراء الانتخابات هناك بل ان ابواق الدعاية الامريكية وجدت الجرأة لتشيد بالانتخابات العراقية والفلسطينية تحت الاحتلال والزعم بانهما دليلان علي ان شمس الديمقراطية بدأت تسطع علي الشرق الاوسط. انتخابات فيتنام ويري محللون ان الانتخابات العراقية تحت الاحتلال الامريكي لم تكن اكثر ديمقراطية من الانتخابات التي اشرفت عليها الولاياتالمتحدة في جنوب فيتنام في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي فرغم انها سمحت للاحزاب الكردية والشيعية بتحسين قوتها التفاوضية من اجل المساومة الا ان الملايين من العراقيين لم يستطيعوا ولم يرحبوا بالاشتراك وتم استبعاد قوي سياسية اساسية وكانت اسماء المرشحين سرية كما انتشرت الاتهامات بالتزوير حيث جري تصميم الامر بالكامل لضمان سيطرة الولاياتالمتحدة والعراقيين غير قادرين علي التصويت علي انهاء الاحتلال. وتدليلا علي تهافت الاسباب الامريكية المعلنة للضغوط علي سوريا يري الكاتب السوري عماد الشعيبي علي سبيل المثال ان اعلان تطبيق قانون محاسبة سوريا تزامن مع تصريح صحفي للرئيس الامريكي جورج بوش الذي اجاب عن مبررات اتخاذ قراره بتطبيق ذاك القانون بان سوريا لم تستجب للدور الذي طلبته منها الولاياتالمتحدة بخصوص الشراكة الكاملة في حملة مكافحة الارهاب إذ من بين المطالب الواقعية اغلاق مكتب لحزب الله في دمشق والمعروف انه ليس هناك مكتب لحزب الله في سوريا اساسا وما تم نقله عبر القنوات الدبلوماسية الي سوريا انما يتصل بمكاتب المنظمات الفلسطينية ويقول الشعيبي: "وفي هذه الحال يعني ان الرئيس الامريكي جاهل ولا يعرف عن اي شيء يتحدث لان الخطأ تكرر في تسعة اشهر مرتين او ان هناك من يقوم علي تجهيله عبر البنتاجون واليمين الجديد لغاية "تراكمية" ضد سوريا" وهنا يتساءل الشعيبي عن مصلحة الولاياتالمتحدة في تفكيك تيار اسلامي غير متشدد وعقلاني ويشكل جزءا من ادوات الردع والحفاظ علي الاستقرار في المنطقة خاصة اذا ما كان البديل المنطقي والواقعي هو القاعدة او منطق القاعدة المتشدد. فضلا عن ان المطلب الامريكي بطرد القيادات الفلسطينية من سوريا ايضا غير مبرر فهؤلاء القادة فضلا عن انهم يمارسون العمل السياسي ودورهم اعلامي سياسي لا غير الا انهم وعلي التوازي يبقون الفرصة الوحيدة للتفاوض السياسي والتوصل الي حل.. ثم اذا كان لسوريا ان تطرد هؤلاء -حسب التعبير الرسمي الامريكي- فان مكانهم الطبيعي العودة الي الاراضي الفلسطينية فهل تتدخل الولاياتالمتحدة لضمان عودتهم الي فلسطين؟ ومن الاتهام بمساندة الارهاب الي الاتهام بالتدخل في شئون دولة مجاورة وحتي الاتهام باخفاء اسلحة الدمار الشامل التي رددت المخابرات الامريكية انها نقلت من العراق الي سوريا قبل سقوط بغداد نجد انفسنا في مواجهة نفس المزاعم التي اتخذتها واشنطن مبررا لاحتلالها العراق ورغم ثبوت كذب هذه الادعاءات لم تجد الادارة الامريكية ما يمنع من استخدامها مرة اخري في مواجهة سوريا مع اضافة حجة اخري هي نشر الديمقراطية والاصلاح ودعم المجتمع المدني وهي الحجة التي تفتقت عنها الذهنية الامريكية بعد احتلال العراق بالفعل وانكشاف زيف المبررات السابقة. [email protected]