صدمة بترولية جديدة أم مجرد صعود طارئ ليس وراءه إلا حفنة عوامل طارئة، إذا ولت توقف معها هذا الصعود الوقتي؟ هذا التساؤل صار الآن مطروحا بقوة ليس فقط في أسواق البترول العالمية وإنما أيضا علي المسرح السياسي الدولي وربما بقوة أكبر في أروقة هذا المسرح ودهاليزه. ولاشك أن الرئيس الفنزويلي هوجو شافيز عندما قال "إن عهد البترول الرخيص ولي إلي غير رجعة"، كان يلخص بعبارته الوجيزة واقع الحال في عصرنا الحالي وربما في المستقبل القريب علي الأقل فقد أوضحت شواهد أسواق البترول العالمية مؤخرا - بعدما تجاوز سعر البرميل 60 دولارا - أن ارتفاع أسعار الخام العالمية أمر هيكلي، وليس ارتفاعا عرضيا أو مجرد سحابة صيف سعرية عابرة ولعل هذا ما دفع وسائل الاعلام الغربية إلي اطلاق اسم "الصدمة الثالثة" علي موجة صعود أسعار البترول الحالية. ونعلم جميعا أن الصدمة الأولي حدثت بعد حرب أكتوبر 1973 التي قفزت بأسعار الخام من أقل من تسعة دولارات إلي أربعين دولارا للبرميل أما الصدمة الثانية فوقعت في أعقاب الثورة الايرانية عام ،1979 وكانت فرصة ذهبية للدول البترولية التي انهالت عليها المليارات من البترودولارات. ولا يغيب عن كل ذي عينين الشواهد التي تؤكد أن القوي المسيطرة علي الاقتصاد العالمي لا تألو جهدا في محاولات بسط سيطرتها علي المناطق الغنية بالذهب الأسود وفي المقدمة منها منطقة الشرق الأوسط بداية من العودة إلي الممارسات الاستعمارية في صورتها القديمة وحتي تنفيذ جميع الخطط الممكنة لاستنزاف تلك الثروة ومثال علي ذلك الأنباء التي ترددت مؤخرا عن عزم الدول الكبري بيع أسلحة بمليارات الدولارات لعدد من الدول البترولية حتي تعيد الرأسمالية العالمية تدوير تلك الأموال. ويلحظ المراقب لتطورات الأحوال في أسواق البترول العالمية ستة عوامل تؤكد جميعها صدق مقولة "شافيز"، وتدعو بالتالي البلدان البترولية، خاصة في منطقة الشرق الأوسط إلي وضع هذه العوامل في الاعتبار عند التعامل مع الأقطاب الفاعلة الحالية - والمحتملة مستقبلا - علي المسرح السياسي، علي نحو يمكن من انقاذ البقية الباقية من أوراق اللعبة التي مازالت في يد بلدان المنطقة. أول هذه العوامل يتمثل في أن البترول ليس سلعة عادية وإنما سلعة استراتيجية صارت - وستظل لمئات السنين المقبلة - عصب الحضارة الحديثة، خاصة وأن كل ما طرحه العقل الإنساني - حتي الآن - عن مصادر بديلة لطاقة غير تلك السلعة لم يثبت جدواه الاقتصادية فقد برهنت كارثة "تشيرنوبل" في الثمانينيات من القرن الماضي، علي أن مخاطر الطاقة الذرية تفوق بكثير جدواها الاقتصادية كما أنه من الصعوبة بمكان استغلال الطاقة الشمسية في الدول الصناعية التي تغيب عنها الشمس في أغلب أيام السنة بل وحتي مصادر الطاقة البديلة الجديدة مثل الهيدروجي والايثانول، جميعها في حاجة إلي المزيد من الأبحاث والاستثمارات التي تقدر بالمليارات وسوف تفكر أي شركة طاقة مائة مرة قبل تضخ سنتا واحدا في مشروع في هذا المجال قد لا يعود عليها إلا بالخسارة. أما العامل الثاني، الذي قد يزيد من تعقيد العامل الأول، فهو حقيقة أن العالم اكشف بالفعل كل مناطق إنتاج البترول الرئيسية المهمة وأن الخبراء اكتشفوا أنه في حكم المؤكد أننا لن نسمع ثانية عن أي كتشافات بترولية ضخمة في أي مكان في العالم بعد الآن سواء في البر أو في البحار أو المحيطات أو حتي في المناطق القطبية الشمالية والجنوبية بل إنه حتي الضجة الاعلامية الكبيرة التي أثارها الإعلام العالمي عن بترول منطقة بحر قزوين وكيف أنه سيكون منافسا لبترول منطقة الشرق الأوسط.. هذه الضجة اتضح أنها ضجيج بلا طحن وينسحب نفس الكلام علي بترول بحر الشمال وخليج المكسيك. وهكذا تبين أن العالم بعد أن مسح الكرة الأرضية بالأقمار الصناعية ووسائل المسح الجيولوجية لن يكتشف مناطق بترولية جديدة أهم من منطقة الشرق الأوسط التي تستحوذ علي ستين في المائة من الاحتياطيات البترولية العالمية وهي احتياطيات ستكفي لمدة تصل إلي مائة وستين عاما وهو الأمر الذي يفسر تشبث قوي العالم الكبري شرقا وغربا بمصالحها في تلك المنطقة ولو بالاحتلال العسكري الذي ظنت يوما أنه وسيلة عفا عليها الدهر. ويضيف عامل ثالث بعدا آخر لهذه السلعة الاستراتيجية وهو أن السواد الأعظم من الإنتاج البترولي العالمي عبارة عن خامات بترولية ثقيلة أي خامات تقل فيها نسبة المشتقات البترولية المهمة مثل البنزين ووقود الطائرات والكيروسين وغيرها من الخامات التي تشكل روح الصناعة الحديثة، وما يزيد تلك المشكلة تعقيدا احجام شركات البترول العالمية عن بناء مصاف بترولية جديدة لضآلة هوامش أرباح تلك المصافي مقارنة بأرباح إنتاج البترول الخام وإذا قارنا ذلك بحقيقة أن معظم الخامات الخفيفة موجودة في منطقة الشرق الأوسط لأدركنا إلي أي مدي يعزز ذلك الأهمية البترولية الاستراتيجية لتلك المنطقة، وهي اشكالية لا حيلة للعالم ازاءها. وهناك عامل رابع يتعلق هذه المرة بجانب الطلب العالمي علي البترول حيث صار العالم يستهلك الآن أربعة وثمانين مليون برميل يوميا من البترول وهذه الشراهة في الاستهلاك ستجعل دولة مثل الولاياتالمتحدة التي تلتهم ربع إنتاج العالم من البترول تستنفد كل احتياطياتها المؤكدة في بحر عقد من الزمان أضف إلي ذلك أن الصين والهند دخلتا بقوة حلبة السباق علي الموارد البترولية العالمية بعد أن وصلت معدلات النمو في هاتين الدولتين إلي أكثر من تسعة في المائة سنويا حتي أن الأمر وصل إلي حد وقوف الحكومة الصينية بكل ثقلها السياسي والمالي وراء محاولة شركة "سينوك" الصينية وهي شركة قابضة تعمل في مجال الطاقة لشراء مصالح بترولية داخل الولاياتالمتحدة نفسها وهو ما يتصدي له الكونجرس الأمريكي بكل قوته. كما يرتبط العامل الخامس - المتعلق بالبترول كسلعة استراتيجية - أيضا بقضية العرض والطلب لكن العرض والطلب هذه المرة يكون في أحيان كثيرة، إن لم يكن في أغلب الاحيان غير حقيقي، اي علي الورق فقط حيث اصبحت الصفقات البترولية - بسبب حساسية الاسعار الشديدة ازاء التطورات السياسية الدولية - هدفا لعمليات مضاربة هائلة في الاسواق العالمية ومن المعروف ان هذه الاسواق تتيح إمكانية بيع وشراء كميات هائلة من البترول بمليارات الدولارات علي الورق دون ان تتحرك نقطة بترول من مكانها. ثمة عامل سادس لكنه يتعلق هذه المرة بالدولار بوصفه العملة التي تجري بها بيع الجزء الاعظم من انتاج البترول العالمي، وهو واقع تحرص الولاياتالمتحدة علي تكريسه ولو بالضغط السياسي لتعزيز الطلب العالمي علي الدولار والمعروف ان الدولار مني في العام الماضي باكبر نكسة له علي الاطلاق امام اليورو، عندما هوي باكثر من عشرين في المائة وهو ما كان معناه تآكل العائدات البترولية بما يعادل تلك النسبة. ولاشك ان هذا العامل هو ما دفع كثيرين إلي الحديث عما يعرف بالسعر العادل للبترول وهو السعر الذي يتعين ان يأخذ في اعتباره معدلات التضخم العالمية ومعدلات تراجع الدولار في الاعتبار وهو ما يعني وفق البعض انه يتعين ان يكون سعر البرميل اكثر من مائة دولار للبرميل. واخيرا، الا تستحق هذه العوامل نظرة اكثر موضوعية وتأنيا لدراسة الدوافع والمحركات الحقيقية وراء ما يحدث في عالمنا اليوم، بعيدا عن شعارات نشر الديمقراطية ومحاربة الإرهاب، وما إلي ذلك من طنطنة اتضح لكل ذي عينين زيفها؟ [email protected]