حتي يستجيب دستور مصر القادم لمطالب الثورة كانت الحقوق الاقتصادية والاجتماعية جزءا اساسيا من شعارات الثورة ومطالباتها، فملايين المواطنين خرجوا للشوارع ينادون بعيش - حرية - عدالة اجتماعية - كرامة انسانية، المتأمل في هذه الشعارات يجدها تدور حول نوعين من الحقوق: الحقوق الاقتصادية والاجتماعية (عيش - عدالة اجتماعية) والحقوق المدنية والسياسية (حرية - كرامة انسانية). والحقيقة ان كلا المجموعتين من الحقوق لايمكن فصلهما او الاستغناء عن مجموعة لصالح اخري. فالمواطن لايستطيع ان يدافع عنه حقه في التعبير والتجمع والمشاركة بدون تعليم وعمل، كما انه لا يستطيع ان يحمي حقوقه الاقتصادية والاجتماعية الا بالمشاركة السياسية والتعبير والتنظيم وغيرها من حقوق. فنحن امام منظومة متكاملة والسؤال هنا هل دستور مصر القادم سيحمي هذه المنظومة من الحقوق ويحق لنا ان نعتبره دستور الثورة. وسنركز في هذا المقال علي الحقوق الاقتصادية والاجتماعية تحديدا. يثير الجدل حول الدستور القادم بعض القلق بسبب تواتر الحديث ان دستور 1971 دستور جيد خاصة في باب الحريات والحقوق وان كل ما نحتاجه هو تعديل باب صلاحيات الرئاسة. والحقيقة ان هذا الحديث ليس حقيقيا، فباب الحريات والحقوق ليس جيدا بل يشوبه كثير من المشكلات منها علي سبيل المثال ترك تنظيم الحق للقانون والذي ادي في خبرتنا الماضية الي قيام المشرع بالمساس بأصل الحق. اما المشكلة الثانية فتتعلق بالنص علي الحقوق نصا مختصرا، لايوضح واجبات الدولة تجاه تنفيذ الحق ولا ضمانات تنفيذ الحق. وينبغي الاشارة الي ان الدساتير المختصرة التي تحتوي علي المباديء لم يعد لها وجود في وقتنا الراهن، فنحن في عصر الدساتير المفصلة. ففي خلال العشرين سنة الماضية سادت مدرسة الدساتير التفصيلية ومن ابرز الامثلة دستور فنزويلا ودستور جنوب افريقيا وغيرها. ودعونا نقارن بين وضعية بعض الحقوق الاقتصادية والاجتماعية في دستور فنزويلا ودستور 1971 . اشار دستور 1971 الي ان العمل حق وواجب وشرف تكفله الدولة ويكون العاملون الممتازون محل تقدير الدولة والمجتمع ولايجوز فرض اي عمل جبرا علي المواطنين الا بمقتضي قانون ولاداء خدمة عامة وبمقابل عادل (المادة 13) ، في حين اشارت المادة 14 الي ان الوظائف العامة حق للمواطنين وتكليف للقائمين بها لخدمة الشعب وتكفل الدولة حمايتهم وقيامهم باداء واجباتهم في رعاية مصالح الشعب ولايجوز فصلهم بغير الطريق التأديبي الا في الاحوال التي يحددها القانون (المادة14) . وهكذا فان حق العمل مذكور في دستور 1971 في هاتين المادتين فقط وبشكل يتجاهل كل ما يتعلق بهذا الحق من تفاصيل بل تركها للقانون. فصل دستور فنزويلا في الحق في العمل بكل تفاصيله، ففي 12 مادة تم التعامل مع كل تفاصيل الحق في العمل ومن امثلة هذه المواد المادة 87 والتي تنص علي انه لكل شخص الحق في العمل وعليه واجب العمل. تضمن الدولة اتخاذ كل الاجراءات الضرورية لكي يتمكن كل شخص من الحصول علي عمل منتج يوفر له حياة كريمة ومحترمة، وتضمن له ممارسة كاملة لهذا الحق. دعم العمالة هدف للدولة ويضمن كل رب عمل لعماله شروطا امنية وصحية وجوا مناسبا للعمل وتتبني الدولة اجراءات وتنشئ مؤسسات ترمي لمراقبة هذه الشروط ورفع مستواها. وفي المادة 88 من دستور فنزويلا " تضمن الدولة مساواة وتكافؤ الرجال والنساء في ممارسة حق العمل وتعترف الدولة بان العمل المنزلي نشاط اقتصادي يخلق قيمة مضافة وينتج ثروة ويوفر رفاهية اجتماعية، يحق لربات البيوت ضمان اجتماعي حسب القانون. اما المادة 91 فقد نصت علي ان لكل عامل الحق في راتب مجز يسمح بالعيش الكريم ويسد الحاجات المادية والثقافية والاجتماعية الاساسية له ولعائلته مع ضمان دفع رواتب متساوية للاعمال المتشابهة وتحدد المساهمة التي يجب ان تقدم للعمال من ارباح الشركة. وتضمن الدولة لعمال القطاعين العام والخاص راتب الحد الادني الاساسي الذي يعاد تقديره كل عام.. هذه ليست كل النصوص الخاصة بحق العمل في دستور فنزويلا بل بعضها. وبمقارنة وضعية حق العمل في كلا الدستورين، نجد الهوة واسعة للغاية. فدستور فنزويلا فصل في الحق بشكل غطي كثيرا من تفاصيل العمل لدرجة انه نص علي عدد ساعات العمل النهارية والليلية كما انه وضح واجبات الدولة وايضا واجبات اصحاب الاعمال وهذه نقطة غائبة في دستور 1971، كما انه لم يترك للقانون مساحة كبيرة لتنظيم الحق في العمل بل ما سمح به احاطة بضمانات تمنع المشرع من المساس بالحق علي الاطلاق. واخيرا، فانه من المستحيل ونحن في اعقاب ثورة مجيدة ، ان نعيد انتاج النظام القديم بالاصرار علي حبس انفسنا داخل الصناديق القديمة، فالاحتياج ملح الي الانفتاح علي تجارب دول اخري، نستوعبها ونأخذ منها.