نصحت قومي... فلم يستبينوا النُّصح إلا ضُحي الغد ! شاعر جاهلي المشهد السّياسي التّونسي أزمات متزامنة: أزمة مع المؤسسة الأمنية، ، أزمة مع المؤسّسة الجامعية، أزمة مع المؤسّسة الإعلامية، أزمة مع المؤسّسة القضائية، أزمة مع المؤسسة الإدارية، أزمة مع المجتمع السياسي ، أزمة مع المجتمع المدني خاصة مع مؤسّستيه الحاسمتين: نقابتي العمال وأرباب العمل و أخيراً، لا آخراً، أزمة كامنة مع المؤسسة العسكرية. تتضافر المؤشرات علي أن حكومة "النهضة" عاجزة عن صنع القرار الصّائب، - الذي لا يصنعه إلا العلم و الكمبيوتر و ليس صلاة الاستخارة-، و تالياً عاجزة عن ملاحقة حَشْد الأزمات بالحلول. فحدث ما كان يجب أن يحدث: الأزمات هي الّتي تلاحقها و تتحدّاها فتتراكم بعضها فوق بعض، في انتظار التحول إلي كتلة حرِجة Masse critique لن ينجو من انفجارها احد لا داخل "النهضة" ولا خارجها ! من أين أتت هذه الأزمات ؟ من عام 2011 الذي غذَّي بقوّة اللايقين و خاصة انعدام الثقة بين جميع النخب و أيضا بين جميع المواطنين كتعبير مأساوي عن تفكّك الرّابط الاجتماعي Le lien social الذي هو الاسمنت الضّروري للحد الأدني من تماسك المجتمع: يقتحم العاطلون أماكن العمل ليقولوا لعمالها: "نحن نخدم، انتم أيضاً تخدمون... نحن عاطلون أنتم أيضاً عاطلون". هكذا، و لأول مرة في التاريخ، يبرر العاطلون تحويل العاملين إلي عاطلين مثلهم... ليكون الجميع في الشقاء سواء ! إنّها الأنانية في أكثر تجلّياتها سادية وعدمية "إذا متُّ ظمآنا فلا نزل القَطُر" ! إنها الدرجة الصفر من التضامن الطبقي، بل حتي من مجرد التآخي البشري! ما العمل؟ البداية الصحيحة هي المصالحة الوطنية الشّاملة و الفورية. لماذا ؟ لأنها ستكون صدمة صحّية، و فرحة عارمة كفيلة بإعادة الثّقة المفقودة و ترميم الرّابط الاجتماعي الذي تفكّك حتي آخر خيط. المصالحة الوطنية الشّاملة والفورية هي المطلب الأكثر إلحاحا اليوم. إذ أن حرباً إجرامية و كارثية هي منذ الآن ممكنة بل محتملة، ربما في الربيع القادم ، بين إسرائيل و إيران ، أو بين أمريكا و إيران ، أُولي عواقبها الوخيمة: رفع جميع المخاطر الإقليمية و الدّولية إلي احتمالاتها القصوي. و منها ارتفاع سعر برميل النفط إلي معدلات خيالية ، فضلا عن احتمالات حرب إقليمية أو عالمية نووية، كما توقع ذلك جنرالان أمريكيان متقاعدان، قد تختزل البشرية إلي مليار أو مليارين ! كما توقع جنرال إسرائيلي: "أن الأزمة الدولية الحالية قد تؤدي إلي غابة نووية عالمية" éLe canard enchain (الأسبوعية الفرنسية 16.02.2012) الوحدة الوطنية، التي تمر حتما بالمصالحة الوطنية الشاملة و الفورية، هي في هذه الأوقات الحرجة قضية حياة أو موت لاقتصادنا و أيضاً لبلادنا. فكلما تأخرت هذه الوحدة استفحل الانفلات الأمني و اللّا استقرار و اللّا يقين و الخوف من المستقبل و القرارات الهاذية ، من الجميع، كردّ عليها ! مجانين النهضة حرّروا جميع السّجناء السّياسيين، أوقفوا الملاحقات القضائية و شكّلوا حكومة مصالحة وطنية تضم جميع الطّيف السّياسي من "التّجمع الدّستوري الدّيموقراطي" إلي "النّهضة" مروراً بجميع أحزاب المعارضة و ممثلين عن جمعيات المجتمع المدني و الشّخصيات المستقلة بما فيها الهاشمي الحامدي. إذا حدث و انتصر مجانين "النّهضة" علي عقلائها... رافضين صدرية النجاة الجماعية هذه، فعلي عقلاء "التّكتل" و "المؤتمر" أن يتحرّروا من رِبْقَة تحالفهم الشّكلي مع غُلاة"النّهضة" ليتركوهم يواجهون الأزمات، و الفشل في حلها، وحدهم. أمّا إذا حدث العكس و انتصر العقل علي الجنون في"النّهضة"، فستشهد تونس المنكوبة بداية واعدة بتغيير ذهنية المواطن من عدم الّثقة المتبادل إلي الثّقة المعمّمة. المصالحة الوطنية الشّاملة و الفورية ضرورية وممكنة. عائقها الوحيد هو عقلية الثأر العشائري التي عبر عنها احد قادة أقصي اليمين الإسلامي عندما قال مسفّهاً اقتراح المصالحة الوطنية: "هل ستعيد المصالحة الوطنية الصّحة لمن شُلَّت رجلاه أو ستعيد الزوج للأرملة التي فقدته إلي الأبد؟! ".إنه منطق الثأر التّعجيزي الذي واجه به المهلهل المصالحة الّتي اقترحها عليه جسّاس لوضع حد لحرب التّفاني المتبادل بين قبيلتي تغلب و بكر في حرب البسوس:"أصالحك، قال المهلهل، بشرط أن تملا بُرْدَي من نجوم السّماء وأن تعيد كُليبا «أخاه» حياً. علي عقلاء تونس حيثما كانوا أن يقولوا: لا لهذا الجنون الثّأري الانتحاري. تونس ما بعد 14 يناير 2011، استيقظت فيها جميع الأنانيات الفردية و الجماعية، الحزبية و الجهوية، الدينية و الدنيوية ، فلم يعد بمستطاع نخبة واحدة أو حتي مجموعة من النّخب أن تحتكر السّلطة و الثّروة و تُقْصي باقي النخب. فجزاؤها عندئذ سيكون الاحتراب ثم السّقوط (أَنظر: العفيف الأخضر. "توسيع دائرة النّظام أم توسيع دائرة العنف " ، الحوار المتمدّن 11.04.2011). لا مفرّ في القرن ال 21 من توسيع دائرة كل نظام اجتماعي - سياسي ليشمل جميع النّخب و الطّبقات والجهات بلا أدني استثناء بإشراكها في السّلطة و الثّروة تفادياً لحرب الجميع علي الجميع. هل تستطيع جميع النّخب من جميع المشارب الدينية و الدنيوية أن تفك حبل المشنقة الذي بدأ يلتف حول أعناقها قبل فوات الأوان؟ ممكن، إذا تحلّت ببعد النظر و تخلّت عن مشاعر الثأر البدائية التي أعمتها عن رؤية أن المصالحة الوطنية، الشّاملة و الفورية ، هي حبل النجاة للإفلات من حبل المشنقة الموعود !