أسوأ ما في واقعنا العربي المعاصر أن الحكومات المنوط بها حماية الأرض والشعب؛ هي من تفرط في الأرض؛ وتسوم الشعب سوء العذاب وتذيقه الهوان. هذه الحكومات التي جاء أغلبها تنفيذًا عمليا لاتفاقات سايكس بيكو ومشروع التقسيم الكبير لعالمنا العربي والإسلامي بين الدول الاستعمارية؛ فجاء بعضها على دباباته؛ وبعضها حمته بوارج تلك الدول؛ ومنهم من ورث (عن أبيه وجده) ملكا عضوضا؛ ومنهم من كان ينتظر؛ لولا أن قيض الله لأمة العرب ربيعا ينفض عنها غبار السنين؛ وألحقها بالأمم ذوات التاريخ بعد أن كادت على شفا التوريث؛ لولا أن الله سلّم. أهم وظائف الدولة هي حماية الكيان الوطني: حدودا؛ سماءً وأرضا؛ وحماية الكرامة الوطنية: بشرا وناسا. لكن انظر إلى حركة الشارع العربي وهو يتململ تحت زخات بنادق العسكر ورصاصاتهم الحيّة وهم يفضّون المظاهرات السلمية والاعتصامات المدنية؛ أو تحت سياط الزبانية في الزنازين والمعتقلات؛ أو تحت سياط الجلادين وهم ينتزعون الاعترافات الكاذبة لقضايا لم تحدث (ولا ينبئك مثل العربي خبير) تدرك كم كان هذا العالم العربي المسكين على وشك الأفول؛ وأنه لم ينتفض إلا بعد أن بلغ السكين العظم، وووصل حبل المشنقة المحزّ. ورضي الله عن ابن مسعود الذي قال: القيد إكراه؛ والسوط إكراه. وما أحسبه جال بخاطره تلك الأدوات الجهنمية في التعذيب؛ والحيوانية التي يتعامل بها جلاوزة الحكام العرب في جملتهم مع شعوبهم. إن أهم ما يحكم العلاقة بين الحاكم والمحكوم في التصور الإسلامي أنها علاقة تراحمية: تقوم على التعاون البر والتقوى؛ علاقة إنسانية: يُوقّر فيها العالِم؛ ويُرحم فيها الشيخ؛ ويُرفق فيها بالضعيف. ولعل هذا ما عناه سيدنا أبو بكر الصديق حينما قال: الضعيف فيكم قوي عندي حتى آخذ الحق له؛ والقوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه. صحيح أننا لا نريد صورًا مثالية ولا تطبيقات تعجز الكافة عن تكرارها في واقعنا المعاصر لكن يظل المعيار الأساسي حاكما ويبقى النموذج القياسي ماثلا في الأذهان فيظهر حجم الفجوة الرهيبة بين الواقع الكئيب والأمل المرتجى: الحاكم هو أجير عند الأمة استرعاه الله أمانتها؛ لا ليذل معارضيه ولا لينفي مخالفيه بل يسع أفقه الجميع؛ ويسع صدره الجميع؛ وتسع مؤسسات الدولة الجميع. وفي واقع عربي هذا شأنه كان حرياً بالنخب الفكرية والسياسية أن تكون جسور تواصل واتصال بين الحاكم والشعب؛ وأدوات ردم الفجوات في المجتمع؛ وقنوات توصيل المطالب في السياسة. لكن المشاهد أن نظمنا العربية المعاصرة قد بلغت شأوا عظيما في إفساد تلك النخب: هذا بمنصب؛ وذاك بمال وهذا بصفقات حرام من مال الشعوب وثروات الأمة، لقد عرف الحكام مفاتيح تكوين أغلب تلك النخب وكيف تبني توجهاتها. بل أحسب أن النظم العربية قد نجحت إلى حد كبير في برمجة نمط تفكير تلك النخب حتى صاروا يشتغلون بأهواء الحاكم دون أن يطلب منهم ذلك. نخب هانت على أنفسها فهانت على شعوبها قبل حكامها. نخب فرطت في وظيفتها الكفاحية فلم تجد من الشعب ظهيرا ولا نصيرا لأنها لم تعد تعبر عن واقع شعوبهم بقدر ما أصحبت تعبر عن واقع الحكام في أحط صوره. وأخيرا هل يتصور المجلس العسكري في مصر المحروسة (إن شاء الله) من بعض أبنائها أن قانون الطوارئ يمكن أن يحكم حياتنا مرة أخرى؛ وأن يمر تمديده بسهولة. إن شعب مصر: ما ثار إلا ليخرج من الحالة الاستثنائية إلى الحالة الطبيعية؛ وما ثار إلا ليخرج من عداد الشعوب الموَرّثة إلى الشعوب صاحبة الاختيار والقرار؛ وما ثار إلا لأشواق الحرية التي هفت لها نفسه وضحى في سبيلها بالغالي والنفيس؛ وما ثار إلا ليدخل المجتمع تحت حكم القانون الطبيعي الذي يحكم على الكبير والصغير. ما ثار إلا ليشعر المصري أنه سيد في وطنه: لا يهدده حاكم ولا يستغله شرطي ولا يبتزه بلطجي؛ وطبعا الثلاثة يشتغلونه. على رأي يوسف معاطي في سخريته اللاذعة.