بساطة الأعماق رحل عن عالمنا واحد من ألمع وأهم كتاب القصة والرواية في مصر والعالم العربي، بعد رحلة طويلة وممتدة مع الكتابة والابداع الأدبي. انه الكاتب الكبير إبراهيم أصلان، صاحب "بحيرة المساء"، و"يوسف والرداء" و"مالك الحزين"، و"وردية ليل" و"عصافير النيل" و"خلوة الغلبان".. وغيرها. لقد تميزت كتابة ابراهيم أصلان بالاكتناز والكثافة السردية الشديدة ، رغم بعض التفاصيل الضرورية في وصف الشخصيات والأماكن. وربما بسبب ذلك تميزت معظم أعماله بالقصر والايجاز. ويتركز السرد عنده علي الجدل بالغ العنف والاصطخاب بين تحولات العوالم الخارجية السياسية والاقتصادية، والعالم الداخلي لدي شخصياته. وكان الهدف دائما هو ابراز أثر هذا الخارج المليء بالتحولات القاسية والعنيفة، دائما، علي الداخل الحساس والمليء بالخيبات وألوان البؤس الروحي رغم أي مظهر خارجي غير موح بذلك. وتميزت شخصياته بعاديتها ويوميتها المألوفة التي نجعلنا نظن أننا قد التقيناها من قبل، والتي تمتليء بها البيئات الشعبية والفقيرة. فهناك تاجر الدجاج المتطلع الي بناء برج سكني، والعامل السابق في كامبات الانجليز والمتبرم من الأنماط التي يراها منحطة من جيرته، والشيخ الكفيف الذكي المتمرد علي وضعيته العاجزة، والأم الريفية الهرمة المشرفة علي الموت، والزوجة اللعوب، والأرملة التي تعاني الحرمان الخ. وغالبا ما تتكون هذه الشخصيات من سكان المناطق الهامشية الذين نزحوا حديثا، أو قبل جيل أو جيلين، من القري والمراكز البعيدة. والتي اضطرتها أوضاعها المادية التعيسة الي اللجوء الي العاصمة الكبيرة القاسية، بحثا عن فرص العمل والرزق. حيث مثل هذا الحشد، من البشر، بانوراما هائلة تمور بالنماذج البشرية بالغة التنوع والتباين والتعدد في المشارب والتناقض في الرؤي والأحلام. الا أن ما يجمعهم ويوحد بينهم جميعا هو تلك المسحة الدفينة من الأسي التي تملأ كياناتهم وتلف عالمهم النفسي، والتي كثيرا ما يحاولون التغلب عليها باصطناعهم الفكاهة والعشق المفرط لملذات الحياة ومسراتها الفجة والحميمة، التي يتناولونها، غالبا، بلغتهم المكشوفة والسوقية دون تزويق أو تهذيب. إن شخصيات ابراهيم أصلان هذه تبدو وكأنها ليست من خلقه وابتداعه، بل تكاد تنطق بأنها تلك الشخصيات الحقيقية والواقعية المكتسية باللحم والتي يجري في عروقها الدم، والتي تملأ هذا العالم الذي انتمي اليه وأولع به وارتمي في أحضانه. ولذلك فاننا نلاحظ تعاطفه الخفي مع - بل ولعه وعشقه ل -هذه الشخصيات التي تملأ هذا العالم وتمنحه مدلوله الانساني الزاخر والمعقد. وربما يفسر ذلك ما نلاحظه من كثرة الشخصيات وازدحامها في معظم أعماله، فيبدو ابراهيم أصلان وكأنه يحرص علي ألا يفلت أحدا منها دون ذكره والاتيان علي سيرته والخوض في مكنوناته ورصد علاقاته المتشابكة مع غيره من الشخصيات. واتساقا مع هذه النوعية المحددة من الشخصيات فقد تركزت أعماله كلها في مكان واقعي وشعبي تماما، يتمثل في حي امبابة وميدان الكيت كات المعروفين، والمناطق والشوارع المتفرعة منهما، مثل شارع فضل الله عثمان، ذلك الشارع الواقعي الذي نجده ماثلا باسمه ومكوناته المكانية والعمرانية وعوالمه الانسانية، في كل أعماله تقريبا. خالقة عالما شعبيا وانسانيا بسيطا للغاية، بمثل سلطة عم مجاهد بائع الفول الذي يموت في دكانه الفقير، والذي يتخذ منه سكنا في الوقت ذاته، دون أن يدري به أحد، في رواية مالك الحزين. لقد رسم ابراهيم أصلان مكانا روائيا بالغ البساطة والفقر والعادية، مرورا بالحكايات والأحداث ومليئا بالهواجس والتفاصيل والأحلام المجهضة، خاصة بعد هزيمة 1967، والتحولات الاجتماعية والسياسية التي نجمت عن مرحلة مابعد عبدالناصر، والتي ملأها تجار السوق السوداء والمقاولون واللصوص. ولكنه أيضا ورغم ذلك، مكان بالغ الجمال، من حيث انسانيته المفرطة وأعماقه الدفينة الأخاذة. إنه تلك المنطقة التي يقدمها ابراهيم أصلان وكأنه لامكان آخر غيرها الا العدم. فهو يكاد ينبئك بأنها هي العالم بكليته ومبناه، وأن حدودها المكانية هي حدود الوجود الدنيوي المعروف بتفاصيله الحميمة وحدوده الضيقة والمترامية في ذات الآن. انها ذلك المكان المختزل الذي يكاد يلخص العالم الصغير الغني بتفاصيله العمرانية والانسانية المتداخلة علي نحو بالغ الحميمية والتشابك والتعقيد. وهي تلك المنطقة التي تفضي دائما الي البحر أو الميادين الواسعة التي تمثل العالم الآخر اللا نهائي، فيصبح ذلك العالم الخارجي هو عالم التيه والضياع (وهذا ما يصدقه بالفعل واقع المدن الكبري بوحه عام) الذي اذا خرجت اليه الأم العجوز هائمة علي وجهها وقد اكتسي وجهها باللون الأخضر، في رواية عصافير النيل، فهمنا أنها قد خرجت من الحياة كلها الي العالم الآخر. لقد بدأ ابراهيم أصلان حياته الأدبية كاتبا للقصة القصيرة، فأبدع فيها واعتبر واحدا من أساطينها وكتابها الكبار رغم قلة انتاجه بصفة عامة. الا انه عندما كتب الرواية، في بداية السبعينيات، ظل وفيا لمنهجه الولوع بالجزئيات والتفاصيل، ذي المنحي الغنائي الذي يميز الكتابة القصصية. ومن ثم جاءت أعماله الروائية علي شكل "الحلقات القصصية" التي تأخذ كل منها بخناق الأخري وتتطور بها، والتي يمكن لكل حلقة منها أن تصبح بذاتها قصة قصيرة مستقلة، الا أنها ترتبط جميعها برباط الاشتباك والتداخل الحدثي، ومن ثم النهاية التي تفضي اليها مصائر الشخصيات ونهايات الأحداث. وهو الأمر الذي يمكن تلمسه علي نحو معين في "مالك الحزين"، والمتجسد بوضوح أكبر في "وردية ليل". إن أعمال ابراهيم أصلان لاتختلف كثيرا عن شخصيته ، فهي حميمة ودافئة دون افتعال، ولغتها بسيطة ودالة دون زركشة، وشخصياتها يومية وواقعية دون تفلسف، وحدثها لايخلو من طرافة وميل الي الفكاهة دون هزل. ولكن أعمال ابراهيم أصلان وشخصيته، معا، تنطويان في كل ذلك علي أعماق بالغة الغني والثراء، ورؤي بالغة القوة والنفاذ، ووعي بالغ الحدة والنصوع بصيرورتنا المجتمعية ووضعيتنا الانسانية. المجد لك أيها الكاتب الكبير .. وألف دمعة حزن علي فراقك