حين يكتب صحفي في تصريح من التيجاني الطيب:صرح مسئول في الحزب الشيوعي أو صرح مسئول شيوعي؛ يمتلكني الغضب الشديد. واسخط علي عدم جودة صياغته، لأنه في هذه الحالة عليه أن يكتب:صرح شيوعي مسئول. فالتيجاني لا يعرّف باضافة المنصب أو الموقع في المؤسسة، فهذا اسم؛ بينما امثال التيجاني يعرّف بالصفة والخصال علي رأسها المسئولية والالتزام، وهي التي تميزه داخل الحزب، وليس موقعه أو مهامه الحزبية. فقد تحول الرجل الي قيمة ورمز يتجاوز الالقاب والاسماء المضافة. فهو علي مستوي الشخصية والكينونة يمثل الاتساق المطلق أو هارمونية الداخل والخارج أي تطابق البرانية والجوانية، المظهر والجوهر. هذا هو تجسيد الانسان الذي قيل عنه : إنه يفكر كما يريد، ويقول كما يفكر، ويفعل ما يقول. وقد جعل من الحياة معركة إنسانية كبري من اجل الحق والعدل والحرية. هذه معركة نبيلة ادعي كثيرون خوضها. لذلك المهم، كيف خاض (التيجاني) معركته وما أدواته وكيف استخدمها طوال حياته العامرة؟ لم يكن يقسم سلوكه وافعاله الي تكتيك واستراتيجية، بل اكتفي بالاستراتيجية فقط. لذلك، لم"يتكتك" أو يناور أو يراوغ مع الناس، ولا في السياسة، ولا في الحزب، ولا في اليومي. والعجيب أن السرية التي لفت حياته كلها وحاصرته، خرج منها اكثر وضوحا وصراحة، وقاطعا في رأيه كالسيف، مبينا مثل الشمس. والسر في هذا الاتساق هو الصدق -كلمة سهلة وفعل كتجمير الذهب. يتحايل عليه البعض بتلوينه، لذلك سمعنا بالكذب الابيض. ولكن (التيجاني) لم يعرف الكذب مهما كان لونه، فالشيوعي الحق لا يكذب لأنه واثق من امتلاك المستقبل، ولأن الصدق مفتاح كل الفضائل الاخري. ومن مفارقات السودان الذي ضحك فيه القدر، حدوث أغرب عملية مقايضة في تاريخه. فقد أخذ (الاسلاميون) من الشيوعيين طريقة تنظيمهم الحديدي، واعطوهم اخلاق سلفهم الصالح من المسلمين. لذلك، نجد عند (التيجاني) ورفاقه، الصدق والعفة، ونظافة اليد، والاستعداد للتضحية والفداء، وايثار عمر بن الخطاب. أما (الاسلامويون) فهم يكذبون كما يتنفسون، ويدلسون، ويأكلون مال النبي (ليس مجازا بل حقيقية: هيئة الحج والعمرة) . شيوعي أصولي يصنفه البعض ومن بينهم رفاق له بخبث، كشيوعي اصولي. ولكنه في حقيقته شيوعي أصيل، والفرق كبير بين الجمود، والإمساك بالجمرة. فقد وهب عقيدته عمرا كاملا ، أكثر من ستة عقود؛ فلابد من حدوث التماهي بين الاثنين:الحياة والفكرة. ويخفف كثيرون تقييمهم للشخصية بخبث أنعم بالصاق صفة"زول صعب" للتقليل من مكارم الالتزام الصارم. وكلمة "صعب" من قاموس اللؤم والخبث السوداني. فقد يراد بها"-متزمت أو مغلق أو عدائي أو بخيل أو متعصب أو شرس أو محرج. وكل هذه الصفات ليست لها أدني صلة باخلاق وقيم، نجح لئام وخبثاء الافندية داخل وخارج الحزب، في الصاق صفة"صعب" بالتيجاني، رغم أنه هين تستخفه بسمة الطفل، لمن حرص علي معرفة دواخله. وقد عرفت تلك الصفة ليس في الندوات ومن الكتابة. ولكن من صداقته لمظفر وخالد وبشري، والذين لا يبدأ أي عيد عندهم قبل أن يباركوا لعم التيجاني العيد. طقس يتوقعه ولا يفرطون فيه، وكأنه تميمة لفرحهم بالعيد. فقد يكون صعبا كفولاذ تصعب أن تثنيه عن المبادئ والقيم التي لا تهاون ومساومة فيها مثل الصدق والحزب والاشتراكية؛ وما عداها فيه نظر. مع طموحات شعبه يسهل (التيجاني) علي الباحث مهمته في اثبات وجود المثقف العضوي (غرامشي) والمثقف الكوني-التاوي، فالأول معروف لدينا وهو الذي يعبر ويندمج في طموحات شعبه وطبقاته الفقيرة، ويناضل من اجلها خلافا عن المثقف التقليدي الذي يعبر عن طبقات غير صاعدة. وهذا هو الرجل منذ نهاية اربعينيات القرن الماضي؛ وامثال هذا موجود. ولمنه اكمل عظمته، وشموخه، وتميزه، بتحوله الي مثقف كوني أو تاوي/طاوي. فقد اراد أن يكمل جدارته الحزبية والسياسية باخري اخلاقية وانسانية. ويقدم (هادي العلوي) تعريفا رائعا للمثقف الكوني أو التاوي، بأنه ذلك الإنسان الذي يتخلي الخساسات الثلاث:الطمع في المال، والجنس، والشهرة مع السلطة. وقد صدق فهذه الخساسات هي سبب الرذائل كلها، لأن الطريق اليها يمر بالجبن، والكذب، وقبول الهوان. ولم تكبل (التيجاني) الخساسات الثلاث. فهو لم يسع لامتلاك المال، لأنه يدرك أن المال هو الذي يملك المرء حين يحفظه ويحرسه، ويلهث خلفه. وهو مع زواجه الاسري، تزوج الشيوعية زواجا كاثوليكيا بلا فكاك، ولم يترك الحزب في قلبه مكانا لغرام أوعشق أخر. أما الخساسة الثالثة فلا تقرب من عاش تحت الأرض سنوات اكثر من التي عاشها علي ظهرها علنا. وقد كان حسن الحظ، إذ لم يكن له ملف أو فايل في أي مؤسسة حكومية أو خاصة للعلاوات والترقيات عدا ملف الأجهزة الأمنية. شخصية معجزة تبدو هذه الشخصية أقرب الي المعجزة أو الملائكة، فهل يوجد ابن آدم واقعي بهذه الخصال؟وقد يدرج هذا الحديث ضمن:اذكروا محاسن موتاكم مع قدر من المبالغة أو أن يوم شكر (التيجاني) قد جاء، فيحق لنا أن نسرح ونمرح في المناحات والمدح بلا كابح أو رادع. لاتوجد أي مبالغة، وكل الذي يقال من صفات هي دون ذلك الرجل. ورغم أنني لم أكن صديقا شخصيا لصيقا له، ولكن هذا لا يمنع أن تدرك القيمة-الرمز الذي يجبرك علي الاحترام والانصاف مهما كانت المسافة الفاصلة. وقد تكون في هذه الحالة اكثر موضوعية. فقد كانت تساؤلات تقلقني، مثل:كيف ظهرت مثل هذه الشخصيات في بلد مثل السودان يرزح تحت جبال من التخلف؟كيف كانت تنشئته وتكوينه؟من أين اكتسب هذه القدرة الاسطورية علي الصمود لرفع صخرة سيزيف التي تسمي السودان، وكلما ارتقي بها هو واصحابه درجات، جاء بكباشي أو عميد مهووس واسقطها في القاع مجددا؟وكيف لا تراوده ورفاقه وهم في شالا أو سواكن، لفحة يأس زغلولية:ما فيش فائدة؟ يمثل (التيجاني) جزءا من ظاهرة عامة هي:الشيوعيون السودانيون، وفي داخل الظاهرة حالة شديدة الخصوصية هي شخصه وشخصيته انتجتها شروط أن تكون شيوعيا عام1948 وفي السودان. شذوذ المكان والزمان ، هول التحدي وعظمة الاستجابة. كانت الجرأة الأقرب الي الجنون أن تخرج طليعة من الشباب تدعو للشيوعية، في بلد يرزح تحت الطائفية، وشبه الاقطاع، وذيول الرق، والفقر والمجاعات، والسخرة ونظام الشيل؛ هذا علي المستوي السياسي والاقتصادي. أما اجتماعيا وثقافيا، مازال سائدا الختان الفرعوني، والشلوخ، ودق الشلوفة، والبطان. وتلبس النساء الرحط والقرقاب والكنفوس؛ ويأكل الناس ملاح ام تكشو والجراد والفئران. ويتحدثون في مثل هذه المعطيات من الفقر والجهل والمرض أو الثالوث الذي يردده المثقفون؛ عن الصراع الطبقي، وديكتاتورية البروليتاريا، والمرتد كاوتسكي، والمنشقة روزا لوكسمبورج. وهذا موقف شديد الالتباس، يراه البعض غير ماركسي لأنه غير عاكس للواقع. وهذا نقد غير دقيق، لأن الماركسية لا تقف عند تفسير العالم بل تغييره. بالتأكيد لا يحدث التغيير بالارادوية أي نتيجة ارادتنا الذاتية، ولكن هل من الممكن تسريع الثورة؟البعض يري أن الازمة الثورية في روسيا في اكتوبر عام1917، ناضجة تماما ولكن قدرات لينين والبلاشفة، كانت حاسمة. لم يقوموا ب" دفر" التاريخ الي الأمام، ولكنهم عظموا من دور الفكر والتنظيم في الثورة. تحالف الإخوان والانجليز هذا رأي ينفي عن الرواد الشيوعيين الاوائل الدونكيشوتية والتسرع، خاصة أنهم لم يكونوا ينوون اقامة دولة شيوعية في هذا البلد المتخلف بل هم في حقيقة أمرهم دعاة تحرر وطني وتحديث. ولكن الطائفية والاخوان المسلمين ومعهم البريطانيون، في مرحلة تفاقم الحرب الباردة، تحالفوا في عملية خلق العدو:الخطر الشيوعي. وحولت القوي الرجعية والاستعمارية المعركة السياسية -الثقافية الي اخري دينية-عقدية لارهاب وعزل القوي الجديدة الصاعدة. وضمن هذا العداء والحصار تربي (التيجاني) ورفاقه وتم تعميدهم بالنار. ففي وسط هذا الجحيم كانوا يناضلون في قلب معركة الحداثة. تصور في مثل هذا المجتمع الذي ركد طويلا وكأنه لم يغادر عام 1504حين اتفق عمارة دونقس مع عبدالله جماع. لقد اجترحوا مغامرة تأسيس المنظمات الحديثة:اتحاد نقابات السودان، الاتحاد النسائي، اتحاد الشباب، اتحادات المزارعين في الجزيرة وجبال النوبة نعم جبال النوبة. ومازلت حين أقرأ كتاب كامل محجوب:تلك الأيام، عن تأسيس اتحاد المزارعين في الجزيرة، شعرة جلدي تكلب. خاصة حين يحكي قصة القميص الواحد الذي يغسله بالليل ليلبسه في الصباح. وهو الذي كان يمكن أن يكون افنديا ببدلة وبرنيطة. هذه هي تضحيات السلف الصالح والكادح، وقد كان التيجاني في قلب المدرسة أو المصهر. للأسف، السودانيون دائما يبخسون اشياءهم. مؤامرة علي الشيوعيين في3/10/1954، نشرت صحيفة"الايام" الخبر التالي:-" أن منشورات قد وزعت في العاصمة وأرسلت لبعض الناس بالبريد تهاجم الدين الإسلامي وتنادي بحياة الشيوعية". ونتيجة ذلك نظمت حملة في بعض المساجد، وطالب بعض الخطباء بهدر دم الشيوعيين. ولكن في ذلك الوقت كان هناك بعض الحكماء في البلاد، قبل أن تغزو الانتهازية البلاد والاخلاق. فاسرع السيد عبدالرحمن المهدي بدرء الفتنة. وبعد أكثر من عشرين عاما تآمر اسماعيل الازهري، والصادق المهدي، وحسن الترابي، علي الديمقراطية وليس علي الحزب الشيوعي. فقد قاموا بطرد نواب انتخبهم مثلما انتخب من طردوهم. هنا كان اغتيال الديمقراطية الثاني، بعد التسليم والتسلم في 17 نوفمبر1958. وكانت سانحة لكي يرد عبدالخالق محجوب أصالة عن نفسه، ونيابة عن التيجاني الطيب وكل السلف المناضل. وكتب مقالا عنوانه:كيف أصبحت شيوعيا؟يقول فيه إنه بعد الحرب العالمية ومع صعود الوعي الوطني، انتطم مثل غيره من الطلبة المتحمسين في هذه الحركة علي أمل المساهمة في تخليص وطنه من النير الاستعماري. ويضيف :-"تحدوني حالة الفقر والبؤس التي كان ومازال يحس بها جميع المواطنين المتطلعين الي مستقبل مشرق ملئ بالعزة والكرامة". وتعلقت آمالهم علي زعماء الاحزاب ولكن هذه الآمال تضاءلت، مما اجبر الشباب علي البحث عن بديل لأن الزعماء-حسب رأيه-لا يحملون بين ضلوعهم نظرية سياسية لمحاربة الاستعمار. وهداه تفكيره الي النظرية الماركسية التي نشأت خلال تطور العلم. وعرج الي موقفهم من الدين قائلا:-"لم اتخذ الثقافة الماركسية لأنني كنت باحثا في الاديان، ولكن لأنني كنت ومازلت أتمني لبلادي التحرر من النفوذ الاجنبي (. . . ) اتمني واسعي لإسعاد مواطني حتي تصبح الحياة في السودان جديرة بأن تحيا-ولأنني اسعي لثقافة نقية غير مضطربة تمتع العقل وتقدم البشرية إلي الأمام في مدارج الحضارة والمدنية. "ولهذه الغايات النبيلة وهب عبدالخالق والتيجاني ورفاقهم الآخرون، كل بطريقته، حيواتهم راضين. ليس في فكرهم صراع مع الدين والإيمان، بل ببساطة:جعل الحياة في السودان جديرة بأن تحيا!هذا هو المطلب والأمل حتي اليوم. هذه هي مدارس (التيجاني) ويخطئ من يظن أنه تعلم الشيوعية في مدرسة الكادر فقط. هذه هي المعارف والتجارب التي جعلت منه المثقف الكوني الذي ركل كل خساسات الدنيا وينافس اعظم الصوفيين دون أن يكون ممسكا بمسبحة أو مرتديا رقعة. فهو من فصيلة إنسان المستقبل:الشيوعي المسئول، والسلف الصالح، والتاريخ اليقظ، وحلم البشرية الممكن منذ افلاطون: العدالة والحرية!