ماصدر عن القوي السياسية وعن الحكومة تجاه أحداث الفتنة الأخيرة (الأحد 9 أكتوبر)، هو شيء جميل (شكلا) ، لكنه عادي جدا جدا، بل قد يعود بالبلاد الي الوراء. الجميل (شكلا) أن هناك وقفة تجاه ماحدث، لكن الإشكالية أن هذه الوقفة لاتختلف كثيرا أو قليلا عن ردود الأفعال في زمن نظام مبارك، وكأن ليس هناك ثورة (!؟!)، وكأن مصر لم تتغير (!؟!). أما من الناحية الموضوعية، فالغريب أن مايحدث الآن (ومنذ فترة) في المشهد السياسي المصري هو - في أغلبه - مجرد "صراخ". رد الفعل علي أحداث الفتنة الأخيرة يُعدُ صراخا، حيث يلملم الجرح بشكل مؤقت ويُترك الفيروس الشرس داخل جسم الوطن، مؤهلا للإنقضاض علي التجانس الوطني (وعلي الحس الثوري)، مرة ومرات أخري. والممارسات السياسية الإجتماعية بعمومها إبتعدت عن الثورة وتحولت الي صراخا. إستفتاء يأتي مهرولا، دون ترتيب منظومي مع قوي الثورة، يتحول الشارع السياسيي بعده الي صراخات وحركات متضادة. فهذه تيارات سياسية تتحول عن الثورة (وبإسمها) الي "صراخات" و "تهديدات" بشأن الإنتخابات، وأخري- في المقابل -تتواءم حول مائدة حكومية (غير ثورية)، تحت مظلة المباديء الدستورية. ويتناسب عن تراضي الإتجاهين صنع توافق وطني فاعل حول مسار الثورة، وحول تحديد السقف المأمول لهذا المسار، والذي تعود بعده البلاد الي حالة التقدم القومي التلقائي، دون حاجة الي إحداث ثورة أخري. وعليه، صارت النتيجة أن الشارع السياسي يشهد تحالفات جزئية، وتفتيتات وتشويهات للمليونيات، وأن الثورة تتوقف عن التقدم الرأسي. بالتوازي مع ذلك، تقوم قوي الثورة علي مستوي وحدات العمل (من جامعات ومصانع ... الخ) بالتصعيد في مطالباتها الفئوية المالية، بصرف النظر عن معقوليتها في إطار السياقات السائدة. إنها إذن صراخات أخري، حيث تطالب برفع الإجور، بينما الحكومة تائهة عن المتطلبات الثورية لإحداث تقدم مالي، بل -ومن ضعفها - تتجه الي المعونات المالية من جهات أجنبية (آخرها السعودية). وهكذا، نتيجة الخلل الإستراتيجي الخاص بحرمان الشعب (صاحب الثورة) من أن يري (ويشارك في إحداث) تقدما ثوريا رأسيا (من أجل مصر والمصريين ككل علي المدي الطويل)، كان البديل الموازي- والتلقائي- هو التمدد الأفقي لحالة الثورة، لتكون علي مستوي وحدات العمل ( وفي الأغلب من أجل مطالب فئوية مالية سريعة). إنها إذن إشكالية منهجية كبيرة. في ظل غياب التقدم الثوري الرأسي علي مستوي البلاد، تتكاثر الطلبات التغييرية (المالية) علي مستوي وحدات العمل، وذلك كنوع من التفريغ للعزم الثوري علي مستوي أفقي، الأمر الذي لابد أن يصاحبه "تفسخ" لحالة الثورة. نعم، نحن نعيش الآن تفسخ لحالة الثورة. وضعية التفسخ هذه تمثل التربة (أو الفرصة) الخصبة للقوي المضادة للثورة، تماما كما حدث أمام ماسبيرو مؤخرا، وما قد حدث علي نفس الغرار قبلها، وما يمكن أن يحدث بعدها. المشكلة إذن ليست بالذات الفتنة الطائفية، أو الأيادي الأجنبية، أو فلول الوطني. المشكلة هي الحالة المتفسخة للثورة، ومسئولية قوي الثورة عن بزوغ ونمو هذه الحالة. في هذا الخصوص، الحاجة قصوي لإدراك مايلي: إن حالة الثورة لم ترتق منظوميا (علي المستوي الوطني العام) منذ خلع مبارك. إن الثورة تشهد تخلفا في جماعية النخبة عن جماعية الشعب. وهي أيضا تشهد إختفاء تدريجيا لإطارها المرجعي العظيم، والذي بلغ قمتة نضجا وإبداعا في اللحظات التي سبقت خلع مبارك. يتمثل هذا الإطار في توحد الملايين مع حالة الثورة، بالمحبة والتسامح والإحترام، من أجل الصالح الوطني العام، ودون أي تمييز، من أي نوع. إن الثورة لم تحدد بعد أهدافها الاستراتيجية، و بالتالي هي حتي الآن لم تبدأ رسم المسار، ولا ممارسة السير، صوب هذه الأهداف. إن الشأن الخاص بأحد الأهداف الكبري للثورة، والمفترض أنه تفريغ البلاد من الفساد، إنما يشهد تراجعا. ذلك بمعني أن دعائم وأركان الفساد تزداد قوة في مؤسسات الدولة، الأمر الذي يقود الي تسريع تقويض الثورة. إن مهمة المجلس الأعلي للقوات المسلحة تتمثل في تسيير شئون البلاد من منظور الثورة (وليس أبدا من أي منظور فوقي)، الأمر الذي لايمكن تحققه إلا في وجود مجلس قيادي جماعي للثورة. من ناحية أخري، يمارس المجلس الأعلي مهامه -عادة - بعيدا عن العون والإستشارة من المؤسسات (الثورية الممكنة)، أو من جماعات فكرية منظومية ذات صله، أي Think Tanks ، مما يجعله يُحمل البلاد (ويُحمل الثورة) مالايمكن تحمله. إن تواصل غياب مجلس قيادي جماعي للثورة، والذي يدل علي تواصل تأخر جماعية النخبة عن جماعية الشارع، إنما هو العيب (أو النقص) الرئيسي للثورة المصرية. إن مصر، وهي في حالة ثورة، ليست بحاجة الي مجلس رئاسي (أيا كان شكله) في ظل وجود المجلس الأعلي للقوات المسلحة، إنما هي في حاجة الي مجلس قيادي جماعي للثورة. السبب في ذلك يكمن في أمرين. الأمر الأول أن المجلس الرئاسي هو - موضوعيا -مجلس إداري (وليس سياسي)، طالما نحن في حالة ثورة، مما يشكل تناقضا منظوميا مع المجلس الأعلي. وأما الأمر الثاني فيتمثل في أن المجلس القيادي الجماعي للثورة هو مجلس سياسي، يكون مسئولا أمام المليونيات، ويكون موجها وإستشاريا للمجلس الأعلي، وممثلا للمليونيات، التي تكون بدورها هي الجمعية العمومية للثورة. أيضا، أن مصر وهي في حالة ثورة، لايمكن أن تفلح مرحلتها الإنتقالية في ظل غياب حكومة ثورة. من ناحية أخري، لايمكن أن ينتظر من أي حكومة أن تكون حكومة ثورة، بحق، مالم تتشكل - أساسا - من (وبواسطة) أصحاب الرؤي من كبار المقاومين للفساد في عهد مبارك. أن الحكومة الحقيقية للثورة هي التي تستطيع أن تقود البلاد الي نجاح المرحلة الإنتقالية. إنها تقوم بإنجاز المسار المعلن للثورة، طبقا للتفاهمات والمقاربات التنظيمية السياسية مع المجلس القيادي الجماعي للثورة، وتحت مظلة الشعب، والمُمَثل علي وجه الخصوص في مليونياته. إن الإنتخابات البرلمانية والرئاسية هي العلامة علي إستكمال تحقق لزوميات الثورة وإنجاز سقفها، وبالتالي ليست هناك صحة في الوصول اليها قبل إتمام المرحلة الإنتقالية. أن تحقيق الأمن العام للشارع المصري ليس أمرا صعبا علي الإطلاق، متي قام عليه مسئولون وخبراء في الشرطة والقانون والإدارة، خاصة ممن خاضوا وعانوا من المواجهات مع فساد الأمن في المرحلة السابقة. لكنه أمر غير قابل للتحقق إلا في ظل حكومة ثورة، وتحت مظلة شفافية مطلقة بين المجلس الأعلي والثورة، ممثلة بقيادتها الجماعية. إن العودة الشعبية للثورة علي أسس علمية جماعية وشفافة ومعلنة، هي السبيل الرئيسي لإستكمال إنجاز الثورة للزومياتها، وحمايتها، وبلوغها لسقفها، ومن ثم إستكمال البلاد للمرحلة الإنتقالية. عندها تكون البلاد مؤهلة للإنطلاق الي التقدم الوطني، من منصة إنطلاق عالية، ولصالح كل المصريين. يحدث ذلك من خلال الدخول الي الإنتخابات البرلمانية والرئاسية، في مناخ مختلف عما يجري الآن. مناخ لاتحظي فيه القوي المضادة للثورة بأي مناعة، ولاتتمكن فيه أي تيارات سياسية من سؤ الإستغلال للفقر والجهل وقوة المال. وهكذا، هناك حاجة "ثورية" ماسة الي إجراء تصحيحات جذرية علي المرحلة الإنتقالية. بل هي حاجة الي إعادة توليد للمرحلة الإنتقالية من جديد. في هذا الخصوص توجد ضرورة للتركيز علي ثلاث نقاط. أولا أن المرحلة الإنتقالية ليست مسألة بيروقراطية، بل هي الثورة ذاتها، حيث تتجسم فيها التفصيلات التطبيقية الخاصة بالثورة. في هذا الصدد يمكن القول بإن "عزم" الجهد التغييري في المرحلة الإنتقالية لابد ألا يقل عن "عزم" مايجري من مجابهات ثورية حاليا في ليبيا واليمن وسوريا، غير أن الإختلاف في التطبيق هو أن العمل الثوري المصري سيكون علي أرض التغيير والإبداع والتخطيط، في ميادين السياسية والإدارة والإقتصاد وتفريغ البلاد من الفساد. وإذا نجحت الثورة المصرية في ذلك، ستمتلك خبرة تكون مفيدة لبقية الثورات العربية، وأما في حالة فشلها، فستتأخر عن هذه الثورات. ثانيا أن مشكلة الشارع السياسي المصري، حتي منذ ماقبل الثورة، هي الضحالة في فاعلية التأمل الإستراتيجي، أي في التصرف بالإستناد الي فكرإستراتيجي. ربما لاتتمثل هذه المشكلة في غياب لهذا النوع من التأمل، بقدر ماتتمثل في عدم الإعتناء به من ناحية المهتمين بالشأن العام والمسئولين، سواء قبل الثورة، أو بعدها. وإذا كان الفاسدون المستفيدون من نظام مبارك قد إنحرفوا بالبلاد لأسباب يأتي من بينها ضعف التأمل الإستراتيجي، فإنهم الآن، كقوي مضادة للثورة، يمارسون أعلي مايمكنهم من مستويات في التأمل الإستراتيجي، ضد الصالح العام. ثالثا: أن المجلس الأعلي للقوات المسلحة، وإن كانت الظروف قد أتت به الي مالم يكن في الحسبان، وهي مسئولية تسيير شئون البلاد في المرحلة الإنتقالية، برغم كونه - من الناحية التاريخية والشكلية - كان كيانا قريبا جدا من مبارك، ومن المفترض أن يحسبا علي بعضهما بعضا، إلا أن الضرورات الثورية لهذه المرحلة، والتقدير الشعبي للدور الوطني للقوات المسلحة، قد إقتضيا (ويقتضي) إعتبار أن هذا المجلس قد وُلد له دور تاريخي جديد في ظل الثورة. إنه دور التسيير الإداري لشئون البلاد في المرحلة الإنتقالية. تجاه هذا الدور تتولد إعتبارات جديدة. عند المجلس الأعلي تتمثل هذه الإعتبارات في السهر المسئول علي تحقيق لزوميات الثورة، بالتعاون مع قوي الثورة، وتحت مظلتها، وفقا لتوجيهات المجلس القيادي الجماعي للثورة. وأما عند الشعب (ممثلا في ثورته)، فتتمثل هذه الإعتبارات في العرفان لدور هذا المجلس، عند إتمام لزوميات الثورة والتحول الي مابعد المرحلة الإنتقالية. إنه عندئذ، عرفان خاص، يعلو فوق أي إعتبارات تتصل بالمجلس وأعضائه في عهد الرئيس المخلوع. وختاما، يمكن القول إن جهدا كبيرا ينتظر قوي الثورة من أجل العودة الي متطلبات المرحلة الإنتقالية. وحتي لايُشوه هذا الجهد بسلوكيات علي غرار الصراخ والتهديد والتفتيت، فالحاجة ماسة الي "الحوار" الحِرَفي، والإلتزام بالتفكير العلمي، والمصالح الإستراتيجية العليا لجموع المصريين (دون أدني تمييز).