گيف يبدو الوضع المصري بعد "التطورات" الأخيرة؟ يذهب الواحد منا - نحن الصحفيين - الي الخارج ولديه يقين، او فلنقل شبه يقين، بأنه في كل مقابلاته مع مواطني الخارج سيكون هو السائل وهم المجيبون. أليس هذا هو هدف الرحلة حتي وان لم تكن رحلة عمل او لاداء مهمة صحفية معينة؟ قضيت الاسبوعين الماضيين في بيروت التي ازعم انني اعرفها جيدا واحبها كثيرا، في ثاني زيارة منذ قيام ثورة 25 يناير، وكما فوجئت في الزيارة الاولي فوجئت اكثر في الزيارة الثانية بأن اللبنانيين تمكنوا من ان يضعوا انفسهم بكل كثافة في موقع السائل بينما وضعوني أنا في موقع المجيب.لان بيروت تلخص لبنان ولبنان يلخص الوطن العربي كله بشكل ربما يفوق كل العواصم والبلدان العربية الاخري، لابد من رؤية اسئلة اللبنانيين عن اوضاع مصر بعد تسعة شهور من الثورة باعتبارها الموازين الصحيحة للمناقشات التي جرت معي. لقد دلت في مجموعها، كما دل كل منها منفردا علي ان انشغال الوطن العربي بثورة مصر يفوق كل الانشغالات العربية الاخري. فاللبنانيون يعرفون بصدق وعمق كيف ان ما يحدث في مصر - وحتي قبل ان يتحول الي تيار او اتجاه عام - يعطي المؤشرات المؤكدة الي ما سيصير لاحقا في بلدان الوطن العربي. ولم يكن هذا الشعور او الادراك اعمق واكثف مما هو منذ قيام ثورة مصر في 25 يناير الماضي. وبالمناسبة فان اسم الثورة المصرية بقي علي ألسنة اللبنانيين "ثورة 25 يناير" ولم يتحول الي 25 كانون الاول (...) حمي القلق في اسئلة اللبنانيين بشأن تطورات الوضع في مصر قلق ظاهر يخفي قلقا دفينا يفوقه عمقا وكثافة، قلقا يفوق ما لمسته في زيارتي السابقة التي انتهت في الخامس من مايو الماضي. بل انه قلق يفوق احيانا ذلك الذي يعتري اللبنانيين الان بشأن ما يحدث في سوريا علي الرغم من قوة وتنوع الروابط بين سوريا ولبنان بما يفوق الروابط بين اي بلدين عربيين متجاورين. ان متابعة المواطن اللبناني لما يجري من احداث في مصر الثورة تبعث فعلا علي الدهشة وتؤكد قولهم ان ما يحدث في مصر يعطي مؤشرات الي ما يمكن ان يحدث في لبنان وفي الوطن العربي ككل. ولا حاجة هنا الي التأكيد بان احداث "فتنة ماسبيرو" - وهي تحمل الاسم نفسه في لبنان - شغلت أذهان المسيحيين اللبنانيين علي اختلاف اتجاهاتهم السياسية، وهذا لا يعني انها لم تشغل اذهان اللبنانيين من غير المسيحيين مسلمين سنة وشيعة. وهنا لابد من ايضاح يضيف ان انشغال المسيحي اللبناني بفتنة ماسبيرو ليس نابعا اساسا من خوف طائفي، انما هو نابع من خوف عام علي الثورة المصرية باعتبار انها خلقت - اكثر من اي من ثورات الربيع العربي - شعورا سائدا بالتفاؤل بالنسبة للمستقبل العربي وان فتنة ماسبيرو انما شكلت عقبة امام هذا الدفع المتفائل الذي صاحب ثورة مصر من بدايتها. العامل الخارجي تعكس اسئلة اللبنانيين عن احداث مصر الاخيرة وعن ما هو منتظر في المستقبل القريب ادراكا لحقيقة ان "العامل الخارجي" هو الفاعل الاول و الاصلي في التطورات السلبية داخل مصر. وربما يرجع هذا الي ادراك لبناني اصيل بان ماسبق ان جري في لبنان من انتكاسات طائفية - بين المسلمين والمسيحيين في الماضي، وما يخشي من تنامي احتمالات انتكاسات طائفية بين السنة والشيعة من المسلمين في المستقبل القريب - هو نتيجة للتدخل الخارجي ان لم نقل لتآمر القوي الخارجية علي الكيان اللبناني. ويبدو من تساؤلات اللبنانيين ان قلقهم علي الوئام الطائفي في مصر يفوق قلقهم عليه في لبنان باعتبار ان التيار الذي تخلقه الاحداث في مصر من شانه ان يؤثر علي الوضع اللبناني. وهذا امر واضح من الوهلة الاولي علي الرغم من ان غالبية المسيحيين اللبنانيين لا تنتمي الي العقيدة الارثوذوكسية التي تنتمي اليها غالبية مسيحيي مصر. وليس معني هذا ان ثمة اهتماما من مسيحيي لبنان بالشأن في مصر يفوق الاهتمام بالشأن المصري عامة. ويلاحظ ان اللبنانيين يسألون في قلق لا يحاولون اخفاءه عن احتمال فوز الاخوان المسلمين باغلبية مقاعد مجلس الشعب في الانتخابات القادمة. الحقيقة ان مناقشات المحللين السياسيين اللبنانيين - وعدد كبير منهم كانوا يشغلون مناصب وزارية في حكومات سابقة - للشان المصري فيما يتعلق بالثورة والاخطار المحدقة بها انما تدل علي حرص شديد علي متابعة الشان المصري ككل ومن جانب المسيحيين كما من جانب المسلمين علي اختلاف طوائفهم. وقد لفت نظري اثناء هذه الزيارة ما صرح به وليد جنبلاط زعيم الطائفة الدرزية اللبنانية والذي تشكل مواقفه السياسية قوة لا يستهان بها تفوق كثيرا القوة السياسية التي تتمتع بها هذه الطائفة التي لا يتجاوز عددها بين سكان لبنان الخمسة ملايين حدود الربع مليون نسمة، فقد قال ان جنبلاط ان قوي 14 آذار/مارس فقدت حليفا كبيرا لها بسقوط نظام حسني مبارك. وقوي 14 آذار هي مجموع الجماعات السياسية التي تعارض كل الاتجاهات اليسارية في لبنان كما تعادي حزب الله وايران وتعادي بشكل اساسي النظام السوري القائم. ويتزعم هذه القوي تيار المستقبل الذي يراسه سعد الحريري والذي ورث هذا الموقع من والده رفيق الحريري رئيس الوزراء الذي اغتيل في انفجار مروع في قلب بيروت في 14 مارس 2005. ويجدر بالذكر ان جنبلاط كان حتي وقت قريب عضوا في قوي 14 اذار ولكنه تحول الي انحياز صريح لما يسمي قوي 8 آذار اي حزب الله وحلفائه علي الساحة اللبنانية. وقد مكّن هذا الانحياز قوي 8 آذار وحلفائها من تكوين الحكومة الحالية التي يراسها نجيب ميقاتي الذي لا يعد هو نفسه طرفا في اي من القوتين الرئيسيتين علي الساحة السياسية اللبنانية. نحو مصر وبالاضافة الي هذا فان جنبلاط هو صاحب نظرية سياسية بشأن الوضع الراهن في مصر تقول ان مصر لم تشهد ثورة فحسب انما شهدت ثورة اعقبها انقلاب. ان الثوار لم يتمكنوا من الوصول الي السلطة وهناك توتر وحوار مع المجلس الاعلي للقوات المسلحة الذي يحكم مصر الان والذي يؤكد انه لا يطمح للبقاء في السلطة الا لفترة قصيرة. ويعلن المجلس انه يريد تسليم البلاد لسياسيين منتخبين انتخابا ديمقراطيا. والرأي السائد بين المحللين السياسيين في لبنان هو ان الشبان الثوريين اخذوا علي عاتقهم ان يتحولوا الي قوة ضغط اساسية لمصلحة تنمية الثورة واستكمالها. ولهذا فان هؤلاء المحللين ينظرون الي الانتخابات التي ستجري في مصر لاختيار اعضاء مجلس الشعب في وقت لاحق من هذا العام ستكون عملية فاصلة، وان انتخابات الرئاسة التي ستجري في النصف الاول من العام المقبل ستحسم الكثير من التوجهات. وهم يعتبرون ان مشروع كتابة الدستور الجديد الذي يجب ان يعبر عن كل اطياف الشعب المصري سيكون بحد ذاته حدثا كبيرا في التاريخ العربي كله. وعلي سبيل المثال فان نعوم سركيس احد ابرز المحللين السياسيين اللبنانيين - علي اختلاف اتجاهاتهم العقائدية والسياسية - يقول "ان ما سيقع في مصر سيغير وجه العالم العربي كله ومساراته، ومن هنا تتوجه الانظار نحو مصر واعادة دورها العربي علي الرغم من التحديات والصعاب والموروثات الباقية من النظام القديم". ولقد تمنيت ان تكون اجاباتي علي اسئلة اللبنانيين قد بلغت المستوي الذي تبلغه اجابات المحللين السياسيين اللبنانيين من الموضوعية وسعة الافق وهم يردون علي الاسئلة ذاتها في الصحافة المطبوعة او التليفزيونية او الالكترونية (...)