تغيرات الزمن الذي نحياه انعكست علي سلوكيات بعضنا، وكأننا أصبحنا نفصل أفكارنا وتصرفاتنا علي مقاسات الزمن وملامحه، أصبح البعض منا عاجزين عن وضع مشاعرهم في مكانها وقالبها المناسب، فلا أفراحهم ولا أحزانهم تأخذ مكانها وتوقيتها الحقيقي، فيحزنون حين لا يجب أن يحزنوا، ويفرحون حين لا يجب أن يفرحوا، وكأن برمجة ما قد اختلت في داخلهم. حين يرحل مخترع قدم للبشرية ما ينفع، يتصدر البعض للأسف حملة السخرية منه ومن حُزن من حزنوا عليه، ويتبادلون المسجات التي تستهين به وبعقله من دون أسباب مقنعة، لكنها حتماً غير مجهولة، فصديق ما لا يتوقف عن وضع صور "مسنجرية" شبه عارية مخلة بالآداب والأخلاق والتربية؟ يتساءل ماذا قدم ستيف جوبز للأخلاق والتربية، وصديق آخر يستخدم منتجات "آبل" بدءاً من "الآيبود" وانتهاء ب "الآيباد" يتساءل ومن خلال جهازه "الآيفون" ماذا قدم لنا ستيف جوبز؟ فهؤلاء يزرعون في داخلنا الدهشة في حجم الاستغراب من مواقفهم، مع أن بعضهم يرتدون ثوب المباديء، ويعلو صوت إحساسهم بالنقص أمام كل ما هو متميز، ويتحدثون باسم الأخلاق والكثير منهم أبعد ما يكون في أغلب المواقف عن الأخلاق، فمن مباديء الأخلاق العدل وعدم بخس الناس حقوقهم وانكار فضلهم. التفاحة المقضومة تبكي مؤسسها وعقلها المحرك، الرجل الذي غير العالم ورحل، إنه ستيف عبد الفتاح الجندلي، المعروف باسم ستيف جوبز، واللافت أن لقبه جوبز يعني وظائف، وهو اسم علي مسمي بفضل توسيعه مجموعة آبل، أسهم في خلق آلاف فرص العمل، فبرحيله أصبحت شركة آبل يتيمة بعد أن حقق لها أرباحاً خيالية وسوقاً عالمية، فهو أحد مؤسسيها ورئيسها الأسطوري، صاحب الحدث التجاري المتوقد بالأفكار العبقرية. عبقرية خلاقة هو ابن السوري عبد الفتاح الجندلي أستاذ العلوم السياسية، ووالدته الأميركية جوان كارول، ولد في 24 فبراير 1955 في سان فرنسيسكو بولاية كاليفورنيا، ولكن والديه لم يكونا مقترنين ببعضهما فتبنته أسرة بول وكارلا جوبز، لكنهم تزوجا بعد ذلك وانجبا أخته مني المعروفة الآن بالكاتبة مني سمبسون، بعد ما اتخذت لقب زوج أمها الثاني، كبر وترعرع ستيف في كنف أسرته بالتبني، وتفوق في دراسته إلي أن وصل وتألق في عالم الكمبيوتر وأجهزته المحمولة والهواتف النقالة متعددة الأغراض، ففي عام 1976 وهو في 21 عاماً أسس شركة آبل مع ستيف ثاني هو ستيف نياك، ثم شاركهم رونالد وين بنسبة 10 % من الأسهم، إلا أنه انسحب من مشروعهم بعد أسبوعين وباع حصته، والسبب هو أن شريكيه طائشان خاصةً جوبز الذي أدخل الشركة لمديونيات عالية للبنوك منذ بداية التأسيس، فتوقع الحجز علي أمواله الشخصية خلال أشهر، وإن الشركة ستعلن إفلاسها في وقت قريب، لكن اسمه ظل ملتصق بتاريخ آبل علي الرغم من شراكته العابرة، وأثبتت له الأيام أنه كان متسرع فلو صبر قليلاً لتنعم بنعم التفاحة وأكل من طيباتها، وقضم عُشر أرباحها التي ما كانت لولا جهود جوبز وعبقريته في انتاج منتجات أثرت في جيل بأكمله وغيرت عاداته اليومية، وأحدثت ما يشبه ثورة اجتماعية قلبت وسائل التواصل بين البشر رأساً علي عقب، وفضلاً عن عبقرية جوبز في تبني الأفكار الخلاقة وتطويرها، وهوسه باالحيثيات والتفاصيل وقدرته علي استشفاف احتياجات المستهلكين بل أحياناً خلق تلك الاحتياجات بنفسه، ثمة عامل أسهم توفيق كمبيوتراته هي دارسته فن الخط حين كان طالباً شاباً. خلافات ورحيل لكن علي الرغم من ارتباط اسم آبل بمؤسسها جوبز، فإنه غادرها عام 1985 جراء خلافات داخلية وصراعات، بعدما أسهم في الارتقاء بها إلي مصاف شركة عالمية، ويرغم عمالقة المعلوماتية علي حذو حذوها واتباع خطواتها، لكن تنحي جويز أتي بعواقب وخيمة، فأحياناً نري فريقاً كاملاً ينهار جراء غياب صانع ألعابه، فعلي تلك الشاكلة إثر تنحي جوبز انهارت آبل وتدنت مبيعاتها، وفي المقابل، ومثلما ينتعش الفريق بعودة قائده، تألقت آبل مجدداً إثر عودة جوبز، فبعد رحيله باع أسهمه كلها عدا سهم واحد احتفظ به من باب الذكري، فأسس شركة سماها "نيكست" وبعد غياب 12 عاما عن آبل، عمدت آبل لشراء نيكست عام 1997 فعاد جوبز إليها وأصبح مجدداً المدير الأكثر تأثيراً في توجهات آبل وسياساتها التسويقية وخياراتها التكنولوجية، وبفضل إطلاق الكمبيوتر "أي ماك" عززت آبل مكانتها العالمية وحققت أرقامها القياسية والتاريخية في باب المبيعات، وتضاعفت أرباحها وبلغ مجموع أسهمها في البورصة 364 مليار دولار، وأصبحت أغلي شركة في العالم بعد تقدمها علي عملاق البترول "إكسون موبيل" قبل أن تعود لتتبوأ المرتبة الثانية بعده. ومن أهم خصال جوبز الإدارية، قدرته علي خلق الحاجة عند المستهلك إلي بضاعة ما، قد تكون نافعة وقد تكون مجرد موضة، وبحسب خبراء المعلوماتية والاتصالات، لم يكن جوبز عبقرياً كمخترع ومبتكر علي الرغم من إبداعاته الكثيرة، لكنه كان عبقرياً كإداري يتسم برؤية تسويقية نادرة، أصبحت آبل بفضله ما هي عليه، وعقب إعلان وفاته في 5 أكتوبر قال عنه بيل جيتس صاحب شركات "مايكرو سوفت" أحد أهم منافسيه، وفي الوقت نفسه أعز أصدقائه " إن تأثير جوبز في عالم الكمبيوتر والمعلوماتية والاتصالات المعاصرة سيظل قائماً لأجيال، وسنفتقده كثيراً مثلما سيفتقده عالم التكنولوجيا والتجديد والإبداع " إن رجل بعقل ستيف جوبز يستحق أن نودعه بكلمة شكراً، فشكراً لروح ستيف جوبز ولكل روح قدمت لنا يوماً شيئاً مفرحاً أثار فينا دهشة جميلة وفرحة حقيقية.