رحل الروائي خير شلبي- صباح الجمعة الماضي- عن عمر يناهر الثالثة والسبعين بعد أن قدم تجربة روائية مصرية خالصة تميزت بالغوص في الحياة الشعبية عبر أكثر من سبعين مؤلفا ما بين الرواية والقصة القصيرة والدراسات النقدية. كان من أوائل من كتبوا ما يسمي الآن بالواقعية السحرية، ففي رواياته تتحرك الشخصيات وتخضع لتغيرات الواقع حيث يصل الواقع إلي مستوي الاسطورة كما حدث في رواياته «السنيورة» و«بغلة العرش» و«صالح هيصة» و«الشطار» و«وكالة عطية» و«زهرة الخشخاش» و«سنف الأدمغة» و«ومنامات عم أحمد السماك» ، و«موت عباءة » وغيرها هوي كوكب جديد من برج الثقافة العربية في مصر ، رحل صاحب «وكالة عطية» و«موال البيات والنوم» و«والشطار» و«صحراء المماليك» و«الوتد» .. الخ. رحل خيري شلبي ابن الثالثة والسبعين عاما ولم يفرغ بعد من الحكايات والأفكار والمقالات التي يمكنها أن تملأ أعمارا علي عمره، فلقد ظل يعمل وينتج بذات الدأب والانتظام والغزارة حتي الرمق الأخير من حياته، ورحل تاركا مشروعات لم تكتمل بعد وأعمالا تنتظر الانتهاء وأخري يخزنها في واعيته الي أن يفرغ مما بين يديه ويأتي دورها. لقد كان حكاء كبيرا، لاينضب معينه ولاتفرغ جعبته من القصص والمواقف والمعاني. ولد خيري شلبي عام 1938ونشأ في قرية شباس بمحافظة الدقهلية في أسرة متوسطة هي الي الفقر أقرب، ثم رحل الي القاهرة فقيرا وضائعا ومشردا وجوابا للآفاق ومتنقلا في الدروب، فكان لكل ذلك دور كبير في اغناء تجربته الحياتية واثرائها علي نحو غير مسبوق، مما مكنه من الغوص حتي الأعماق في تلافيف وتفاصيل الحياة الشعبية المصرية بكل تنوعها وتراكبها حتي غدا مؤرخها الأدبي والجمالي وسفيرها الروحي والثقافي دون منازع. لقد انحاز خيري شلبي الي هؤلاء البسطاء من المهمشين والفقراء والصعايدة والنازحين وسكان المقابر والعشوائيات والقري النائية وتعاطف مع أصحاب الطرافة والمقالب من بسطاء الريف وقدمهم علي أنهم أبطالا عظاما، حتي خطاياهم وقباحاتهم جاءت علي قدر كبير من الجمال والانسانية. لقد رأي خيري شلبي عالمه بأعين هؤلاء البسطاء فرسم أنماط رؤيتهم للواقع الذي يعيشون قسوته وبؤسه، فابتعد عن التفلسف ووادعاء الحكمة وتقمص الوعي اليومي البسيط لأبطاله وتبني طريقتهم في التفكير والتعبير والمماحكة والمشاحنة والاحتيال وابتكار السعادة وسرقة الفرح. فتمكن من خلق أجواء الحياة الفقيرة بألفاظها الخشنة، ومعاناة البحث عن الرزق بحيلها النابية، والمكابدة الوجودية بلوعتها الروحية والنفسية، راسما من كل ذلك لوحات انسانية بالغة الرقة والتوهج والعمق في الآن نفسه، كما تمكن من أن يصنع من مصائر أبطاله ومآلاتهم الشخصية ما يكاد يشبه فصولا عميقة الغور في دراسة جمالية للنفوس والشخصيات وتحولات الواقع السياسي المصري المصطخب، لاتقل في أهميتها ولا دلالتها العميقة عما يمكن أن تصل اليه الأبحاث الأكاديمية الرصينة لعلمي النفس والاجتماع وان تم ذلك بطريقته الخاصة التي تكشف عن الخفي والكامن في أعماق الوعي والوجود الانساني والمصري. فانطبق عليه ماذكره فريدريك انجلز عن بلزاك، من أن قراءة أعماله قد تمنحك وعيا اجتماعيا بأكثر مما تمنحه لك مكتبة في علم الاجتماع. انها مورفولوجيا الواقع المصري بكل أبعاده الانسانية والاجتماعية والسياسية. تميزت أعمال خيري شلبي، الي جانب ذلك، بالطرافة والقدرة علي تحقيق المتعة والتسلية الفائقة، فلا يمكنك الا أن تكمل قراءة قصصه ورواياته وأنت ممتليء بالدهشة والمتعة والضحك من أعماق قلبك رغم مأساوية الأجواء وقتامتها .. فهناك شبه العاطل الذي يسرق الحذاء الثمين من أخيه الطبال الميسور الحال لكي يكمل زفافه من ثمنه (في مجموعة سارق الفرح)، وهناك من يحترف التزويغ من محصل الباص ويبدع فيه باعتباره فنا معتبرا، ذلك الباحث أبدا عن مكان للمبيت والنوم في مدينة قاتمة لاترحم (موال البيات والنوم)، وهناك من يعمل يوما كاملا من أجل وجبة من الفول والبصل والباذنجان المقلي فيشعر بعدها بأنه قد أضحي مثل الثور المتقد بالقوة والطاقة في (أولنا ولد) .. الخ. لقد تميزت معظم الأعمال الروائية لهذا الكاتب الكبير بطولها النسبي، نظرا لقدرته الفائقة علي توليد الحكايات وتضفيرها والاستطراد فيها دون أي قيود أو خضوع ظاهر لمتطلبات البناء الروائي وضروراته الفنية، فجاء فنه أقرب الي الأدب الشفاهي والحكي الحر منه الي الأبنية المصنوعة بمتانة وهندسة محكمة. وهو ما أدي الي أن يصبح فن خيري شلبي فن "جو" أو بيئة millio الي جانب كونه فن الشخصية والحدث بذات القدر من القوة. لقد رحل صاحب "صهاريج اللؤلؤ" مخلفا وراءه صهاريج هائلة مليئة بالقيمة والمعني وجديرة بالتأمل والتعلم من اللآليء الروائية والقصصية والمقال الأدبي والنقدي والتحقيق، فلقد كان الراحل الكبير، رغم بعض تصريحاته الهجائية، شعلة وضاءة دائمة التوهج والفاعلية أنارت حياتنا الأدبية والثقافية.