إذا قرأت التاريخ ستجد مفارقة عجيبة، ستجد أن الشعب المصري يقوم بحركة ثورية بمعدل كل 30 سنة تقريبا، منذ ثورة عرابي 1882، ثم ثورة سعد زغلول 1919، ثورة يوليو 1952، واغتيال السادات ومحاولة الانقلاب 1981، أي أن العمر الافتراضي لصبر الشعب المصري هو ثلاثون عاما، لذلك لم يكن من الصعب لمتابعي التاريخ أن يتكهنوا بحدوث حركة ثورية في مصر في 2011، لقد كان يوم 11 فبراير 2011 يوما تاريخيا بكل المقاييس، حيث شهد ولأول مرة في تاريخ مصر تنحي «حقيقي» لرئيس أو ملك عن حكم البلاد وبضغط من الشعب وليس باجبار من قوة العسكر، وفور سماع خبر التنحي انفجر الشعب فرحا وانطلق للشوارع يحتفل ويغني ويرقص بالإعلام علي انغام الاغاني الوطنية وانطلقت اصوات ابواق السيارات في الشوارع لأول مرة منذ عشرات السنين احتفالا بشيء آخر غير فوز منتخب مصر لكرة القدم. وفور حدوث التنحي بدأنا جميعا في استقبال رسالات علي المحمول والفيسبوك تقول أن البلد الآن اصبحت ملكنا، من اليوم لن نلقي الفضلات في الشارع، من اليوم لن نكسر إشارة، من اليوم لن ننتظر في الممنوع، من اليوم لن ندفع رشوة.. لن.. ولن.. ولن.. ثم توالت الاحداث وبدأ الشعب رويدا رويدا ينسي حماسه واحساسه بأن البلد اصبحت ملكه وينسي قائمة الإصلاحات التي تعهد بها يوم التنحي. وبدأنا نتعامل مع الثورة كهدف في حد ذاته، بينما الثورة لم تكن سوي الوسيلة التي سنستخدمها للوصول للهدف، وهو إقامة دولة حضارية متقدمة اقتصاديا وعلميا وثقافيا، لنستعيد المكانة العالمية التي نستحقها بين دول العالم المتحضر، واخشي ما اخشاه هو أن ننشغل بالوسيلة عن الهدف ، وهو ما بدأ يظهر في الأفق، الشعب الذي قرر أن يطور من سلوكه اليومي، انشغل بالثورة علي حساب تعهداته علي نفسه، فاصبحنا مثل رجل كان يجري وراء حرامي فسبقه، لأن الرجل من كثرة الركض خلف الحرامي نسي الهدف الأساسي من الركض، ألا وهو القبض علي الحرامي، وظن أن الركض هو هدف في حد ذاته. ولا ادري لماذا توقفنا عن تنفيذ تعهداتنا رغم انه لا توجد علاقة تصادمية بين اكمال الثورة البدء في التغيير العملي الذي يبدأ من التغيير الداخلي لكل مواطن فينا. أن نمتنع عن القاء القمامة في الشارع، أن نحترم اشارات المرور، أن نتوقف عن العراك علي كل صغيرة وكبيرة، أن نتعامل بأمانة، أن نتوقف عن الغش والخداع، أن نتوقف عن التحايل علي بعض، أن ننجز اعمالنا بإتقان وبما يرضي الله، والكثير من أمثلة السلوك الشخصي الذي لا يتعارض تطويره مع إكمال الثورة، ما الذي يمنعنا عن البدء فورا في تطوير سلوكنا اليومي؟ هل فلول النظام السابق يمنعونا من ذلك؟ بالطبع لا، لأنه سلوك شخصي بحت.. إذن بالله عليكم لماذا عدنا كما كنا قيل يوم التنحي وبهذه السرعة؟ لماذا عدنا لكل العادات غير الحميدة رغم قائمة ال «لن» الطويلة التي تعهدنا بها علي أنفسنا يوم التنحي؟ إن ما نحن بحاجة إليه وبشدة هو «ثورة علي النفس»، وهي ثورة تقوم كل مظاهراتها ولافتاتها ومقاوماتها وانتصارها داخل كل واحد فينا، حتي نصل بأنفسنا ليوم التنحي، التنحي عن كل سلوك يسيء لنا ولأولادنا ولبلدنا ولنهضتنا، تنحي كل عادة سيئة تعودنا عليها طيلة الأعوام السابقة وكانت سببا في انتشار الفوضي والتخلف والفساد. لقد تعلمنا في إدارة المشروعات أن هناك أعمالا يتم انجازها علي التوالي، فلا يمكن أن نبدأ في عمل دون أن يكون عمل آخر قد انتهي، فمثلا لا يمكن أن نرصف الشارع إلا بعد تسوية الأرض، وهناك اعمال أخري يمكن انجازها علي التوازي، أي أنها لا تعتمد علي بعضها وبالتالي يمكن أن نقوم بها في نفس الوقت. فمثلا يمكننا أن نزرع الشارع بالأشجار في نفس الوقت الذي نركب فيه أعمدة الإنارة، وهو ما ينطبق علي الثورة والبدء في خطوات التطوير والنهضة، يمكن انجاز الاثنين علي التوازي، يمكننا أن نبدأ فورا في خطوات «الثورة علي النفس» ، وأن يبدأ كل منا يوم 25 يناير داخل نفسه، فإذا وصلنا ليوم 11 فبراير داخل انفسنا فتأكدوا أننا قد زرعنا أول نبتة حقيقية في طريق نهضة مصر، الذي هو الهدف الحقيقي.