مثلما عاشت حارة نجيب محفوظ فى الجمالية من خلال الثلاثية السينمائية وعاشت حارة صلاح أبوسيف والسوق الذى أبدعه فى "الفتوة" وحارة توفيق صالح فى "درب المهابيل" ستعيش حارة محمد خان فى "فتاة المصنع" معبرة عن المجتمع المصرى فى زمن مختلف.. هو زمننا الحالي.. وليست الحارة وحدها بما فيها من بيوت ونسق حياة، ولكنهم البشر الذين عاشوا الحياة فى بيوت فقيرة ومتلاصقة، والذين افتقدوا الكثير من مقومات الحياة الإنسانية، واجتهدوا وقاوموا كثيرا حتى يستمروا مع حفظ الكرامة. حارة محمد خان فى "فتاة المصنع" هى النموذج العصرى للحارة المصرية، وهو عصرى لأن الإنسان فيها هو من يصنع الحياة ويحاول الحفاظ على الأسرة، والمرأة تحديدا عكس الموقف فى حارات زمان.. "فتاة المصنع" ليس أول أفلام محمد خان عن النساء العاملات والمهمشات، فقد سبقته أفلام مثل "أحلام هند وكاميليا" وفيه قامت كل من نجلاء فتحى وعايدة رياض بدور شغالات بيوت يحاولن التحرر من وضعية لا تحترم آدميتهما، وفيلم "سوبر ماركت" الذى يقدم حياة عاملة بمحل بقالة شيك، و"خرج ولم يعد" الذى يقدم لنا صورة لفتاة ريفية تعمل فى الزراعة ومن أفلامه الأخيرة أيضا فيلم بطلتاه عاملات فى محل ملابس وكوافير. خان من أكثر المخرجين رؤية ورصدا للمرأة المصرية فى رحلتها ومحاولاتها الدءوب للنهوض بنفسها وتحمل المسئولية، وقيمة العمل بالنسبة إليها فى أفلام توازى الحياة نفسها، وحتى لو كانت ست بيت فقط، فهى إنسانة لها ملامح ووجهة نظر وليست كائنا هلاميا مثل أى قطعة فى المنزل وهو ما نراه من خلال بطلة فيلم "زوجة رجل مهم" أحد أهم الأفلام التى تناولت حدوتة المرأة حين تتزوج السلطة، ويكون رجلها ضابطا يعتبر نفسه صاحب الحق قبل القوة.. فى أفلامه كلها كان محمد خان يتوقف أمام ملامح المكان أو الإنسان ليكشف عنها بعينه فيأخذنا إلى اكتشافها من جديد، وهو ما حدث مع أول أفلامه "ضربة شمس" الذى قدمه عام 1981 بعد عودته من لندن عقب دراسته للسينما واكتشافه رغبته فى العودة إلى مصر التى ولد بها من أم مصرية وأب باكستانى كان يعمل بها، غادر خان مصر وحصل على الجنسية البريطانية بعد سنوات إقامة فى بريطانيا، لكنه أدرك أنها ليست بلده وليس البلد الذى يجب أن يعيش فيه ويقدمه عبر أفلامه، وهكذا حضر لمصر ومعه "خريطة" مدون بها أفكار مشروعات لأفلام تناقش الكثير من أمور وأحوال المصريين يحلم بتنفيذها. كان "ضربة شمس" هو الفيلم الأول الذى صنعه بعد لقائه مع الكاتب فايز غالي، أول كاتب سيناريو تعامل معه، ومع الفنان الممثل نور الشريف، أول نجم لأفلامه، وأول منتج أيضا إذ اقتنع نور بموهبة المخرج الجديد وبقصة الفيلم وقتها فقرر دعم المشروع وإنتاج الفيلم، وكان يحكى عن مصور فوتوغرافى اسمه "شمس" مولع بتصوير الحياة بكل تجلياتها، سواء البشر أو الأماكن وهو ما يقوده إلى تصوير جريمة لم يدر بها ولكن زعيمة العصابة هى من أدركت هذا وتتبعته، ولأول مرة فى تاريخ السينما المصرية رأينا فنانة السينما الكبيرة الراحلة ليلى فوزى فى دور "زعيمة العصابة" لنكتشف جزءا لم نعرفه من قدراتها إلا فى هذا الفيلم أما الأهم فهو هذا الجمال الهائل لعاصمة مصر من خلال عدسات خان وفيلمه ومصوره الفنان سعيد شيمي، كانت الكبارى الجديدة وقتها فى امتداداتها تتشابك فى مدينة بلا زحام مميت ولا تلوث، وفى أوقات الصباح المبكر، تقدم صورة خلابة لمدينة ساحرة تفتن المشاهد وتعبر عن ولع المخرج بها، ولكن خان خرج سريعا من حب المدينة إلى حب مواطنيها فى أفلامه التالية ليقدم مع أبناء جيله الثمانين بعضاً من أروع أفلام موجة الواقعية الجديدة فى السينما المصرية، ومن فايز غالى انتقل إلى التعاون مع بشير الديك، ورءوف توفيق ليكتشف فى أفلامه الأخيرة الكاتبة وسام سليمان كاتبة "بنات وسط البلد" و"فى شقة مصر الجديدة" ثم "فتاة المصنع"، ويواصل أيضا اكتشافه للنجوم الجدد بدءا من محمود حميدة الذى قدمه فى أول بطولاته "فارس المدينة" عام 1986 إلى "ياسمين رئيس" فى بطولة "فتاة المصنع" التى حصلت على جائزة التمثيل للدور الأول عن دورها فى الفيلم فى مهرجان دبى السينمائى فى ديسمبر الماضي.. وهناك فى أفلامه نجوم حققوا معه أفضل مستوياتهم مثل أحمد زكى ونجلاء فتحى وممدوح عبدالعليم وغادة عادل، بل وعادل إمام نفسه فى فيلم "الحريف" وحسين فهمى وسعاد حسنى فى "موعد على العشاء" وفردوس عبدالحميد "الحريف" وغيرهم، محمد خان مع أبناء جيله جزء من صناع الفن والجمال والبهجة فى الحياة المصرية منذ بداية الثمانينيات وحتى اليوم، ولهذا تبدو مسألة حصوله على الجنسية المصرية منذ أيام، مساء السبت الماضى بقرار من المستشار عدلى منصور رئيس الجمهورية المؤقت كما لو كانت أمرا شكليا، ربما لأنه أصبح جزءا من الحياة والثقافة المصرية منذ زمن طويل، لكنها تعيدنا إلى تأمل قضية الانتماء والمواطنة، ففى الوقت الذى طالب فيه الكثيرون بهذا، أى تصحيح وضع محمد خان وباسبوره، كان هناك من يرفض هذا ويعطله بدون إعلان، وكان هناك من يفتح باب المزايدة على فنان كبير بحجمه من خلال أعمال قدمها مثل "زوجة رجل مهم" أو "السادات"، وتوالت السنوات وخان يزداد مصرية، وأعماله تتابع الحياة فى تغيرها وعنفوانها ليصبح "فتاة المصنع" وما أحدثه من تفاعل كبير الرسالة الأهم على مصريته التى حصل عليها رسميا مع بداية عرض الفيلم هذا الأسبوع.. وهو فيلم يستحق كتابة منفصلة عنه فى الأسبوع القادم.. تحية لفنان السينما المصرى الكبير محمد خان.