تقف صحافة الاثارة البريطانية في قفص الاتهام وتدافع عن نفسها أمام السلطة القضائية التي تحقق معها في قضايا تمس سيادة القانون وحقوق الافراد ورفض اختراق الحياة الخاصة للحصول على انفرادات تزيد من أرقام توزيع الصحف . تمثل ريبيكا بروكس أمام القضاء ، وهي المرأة الأقوى في بريطانيا ، حتى بدأ هجوم الرأي العام والاحزاب في اعتراض على تغلغل مؤسسة روبرت ميردوخ التي تملك عدة صحف ومحطة فضائية هي سكاي واستطاعت التأثير على مسارات سياسية واجتماعية وأصبحت قوة يخشاها الجميع مع محاولات التودد إليها وإلى الشخصيات التي تقف على قمتها . أصبحت مؤسسة ميردوخ تحقق الأموال الطائلة نتيجة ارتفاع معدل التوزيع صحيفة الصن التي تصدرها المؤسسة توزع 5 ملايين نسخة يومياً هذا بالاضافة إلى حجم الاعلانات الكبير . وقد ثبت أن الصحيفة كانت تدفع مكافآت سخية للحصول على الخبر المثير ، وتورط رجال شرطة في اعطاء معلومات مقابل المال في وقائع خطيرة بشأن هذا الاختراق للمؤسسة الامنية . وهناك حكايات ملفقة تم نشرها احياناً ومصدرها شخصيات باحثة عن المال السريع والشهرة حتى ولو كان ذلك عن طريق فضائح وعناوين مثيرة ، وهو ما فعلته سالي أندرسون ، التي ادعت بأنها على علاقة غرامية مع وزير الداخلية الاسبق ديفيد بلانكيت عندما كان يشغل موقعه في حكومة توني بلير . وكانت سالي وراء نشر عدة أخبار عن الوزير بهدف اسقاطه وتمزيق الحكومة العمالية الموجودة غير أن ديفيد بلانكيت تمكن من اجهاض الحملة ضده واعترفت سالي مؤخراً بالكذب والخداع.. تحولت رييكا بروكس إلى شخصية قوية في المجتمع البريطاني بعد أن أصبحت رئيسة تحرير نيوز أوف ذا وورلد. ضد حزب العمال صعود نجم بروكس يكشف قوة نفوذ مؤسسة ميردوخ التي تحالفت مع مارجريت تاتشر رئيسة الوزراء المحافظة ، وعندما تولى جون ميجور الحكم بعدها استمرت العلاقة كما هي . ووقفت المؤسسة بعناد ضد حزب العمال لمنعه من الوصول إلى السلطة بعد أن كان قريبا منها . قاد ديفيد ماكينزي رئيس تحرير صحيفة الصن حملة شرسة ضد زعيم حزب العمال آنذاك نيل كينوك ، والذي كان على أبواب الفوز في انتخابات عامة ، غير أن الصحيفة نشرت صباح يوم الانتخابات تحذيراً للمواطنين من ان انتخاب كينوك معناه افلاس بريطانيا وخرابها اقتصادياً ، وقد استجاب الرأي العام لحملات الخوف والتحذير وأعطى صوته لجون ميجور المحافظ أكثر زعماء بريطانيا افولاً ورمادية وعدم جاذبية ، لكن الصن كانت تريد شخصية سياسية محافظة في وقت كان حزب العمال يتجه نحو الراديكالية السياسية .. كان على توني بلير لكي يكسب الانتخابات الذهاب إلى استراليا للقاء روبرت ميردوخ صاحب صحيفة الصن وغيرها للحصول على تأييده لتمهيد الطريق أمامه لدخول رقم عشرة داوننج ستريت.. وقد حاولت لجنة القاضي ليفنسون بحث تأثير صحافة ميردوخ على البرلمان والحكومة والحياة السياسية البريطانية كلها . وقد وجهت اللجنة اشارات لضرورة اعادة وضع المعايير لضبط أداء الصحافة الخاضعة لتكتلات مالية ضخمة ، وهذا لا يعني التدخل في حق التعبير والحريات وانما التأكيد على ابعاد مناطق النفوذ من العبث بأركان كيان مؤثر في توجيه الرأي العام تمثله الصحافة والاعلام.. تقف ريبيكا بروكس ومعها آندي كولسون أمام القضاء والاخير كان مدير مكتب ديفيد كاميرون للاتصالات والاعلام ، وجاء إليه من قلب مؤسسة ميردوخ وصحافة الاثارة حيث تولى رئاسة تحرير صحيفة نيوز أوف ذا وورلد التي تم غلقها . وقد وجهت إلى كولسون اتهامات بالمشاركة في عملية التنصت على هواتف . والمحاكمة هنا ليست لها علاقة بحرية الرأي أو تكميم الافواهوانما هي تحاكم الصحافة على دورها في الانزلاق باختراق القانون ومحاولة التأثير على صناعة الخبر بالضغط والمال والاخبار المفبركة أحياناً واختراق الهواتف والتنصت على مكالمات دون اذن من القضاء . كل هذا الركام يخضع للمساءلة القانونية ، خصوصاً أن مؤسسة ميردوخ منذ عهد مارجريت تاتشر أصبحت تملك نفوذاً واضحاً وصارخاً ، جعلها تصوغ المجتمع بعيداً عن القوى الأخرى الممثلة في القضاء والبرلمان والأحزاب . وقد اهتم القاضي ليفنسون في بحث مدى تأثير هذه المؤسسة على الآداء السياسي سواء بشأن الحرب على العراق أو نفوذ أفكار روبرت ميردوخ السياسية التي تميل بشكل واضح نحو اليمين المتشدد سواء تجاه الاتحاد الاوروبي أو الموقف من الاقليات الموجودة في بريطانيا . صحافة ميردوخ الشعبية مشبعة بالعداء للاتحاد الاوروبي والأقليات وتتورط أحياناً في مواقف عنصرية خصوصاً عندما تغطي مباريات كرة القدم بين انجلترا والمانيا ، حيث يتحول التنافس الرياضي إلى تفجير تداعيات لها علاقة بالحرب العالمية الاخيرة التي دخلتها لندن ضد برلين . تواجه بروكس خلال جلسات المحاكمة عدة اتهامات بالتنصت على هواتف ، سواء عندما كانت رئيسة لتحرير لصحيفة نيوز أوف ذا وورلد أو خلال توليها منصب المدير التنفيذي العام لمؤسسة ميردوخ الناشرة لعدة صحف منها التايمز اليومية والصنداي تايمز الاسبوعية . دون أخلاق تكشف المحاكمات عن علاقات متداخلة بين الشرائح العليا للمجتمع ، حيث كانت بروكس نجمة لامعة تجذب الاهتمام نتيجة نفوذها على رأس امبراطورية تملك التأثير في توجهات الرأي العام ولديها مفاتيح صوغ المواقف السياسية بالكامل . وقد ترتب على انفجار فضيحة التنصت على هواتف وضع المؤسسة تحت مجهر القضاء واضطر ميردوخ للتراجع بغلق صحيفة نيوز أو ذا وورلد ودفع تعويضات لشخصيات تضررت من عمليات التنصت مثل نائب رئيس الوزراء السابق جون بريسكوت بالاضافة إلى فنانين وشخصيات بارزة في المجتمع.. منذ صعوده إلى قمة حزب العمال يقف ايد ميليباند ضد هيمنة مؤسسة ميردوخ ويرى ان تدخلها المتشعب أضر بالمسار الديمقراطي ، ويعتقد أن خضوع توني بلير زعيم الحزب السابق لنفوذ صحف تلك المؤسسة أضعف حزب العمال وضغط عليه للتحالف مع اليمين الامريكي الذي يمثله الرئيس السابق جورج بوش . يطالب حزب العمال الآن بوضع قواعد لضبط الصحافة ، وهو هنا لا يريد خنق حرية التعبير وانما رفع الضغوط حتى تعمل المؤسسة الاعلامية في ظروف طبيعية وبدون أجندة سياسية محددة تميل إلى هذا الطرف أو ذاك . وتعتقد شرائح متعددة في المجتمع البريطاني أن تضخم مؤسسة ميردوخ كان له الآثار الضارة في عملية صوغ المجتمع باللهاث وراء المال والنجاح مهما كانت الوسيلة المستخدمة لتحقيق هذه الاهداف . وجاءت فضيحة التنصت على الهواتف لتؤكد غياب البعد الاخلاقي والضوابط الاجتماعية التي تحدد دور الصحافة في مجتمع مستقر وسليم.. كشفت التحقيقات تدخل رئيس الوزراء الاسبق توني بلير على الخط ، إذ نصح بروكس بعد انفجار أزمة التنصت بالثبات والقوة ومحاولة اجهاض القضية بتشكيل لجنة تقصي حقائق ، كما فعل هو عندما انتحر خبير أسلحة الدمار الشامل جون كيلي وتوجهت الاتهامات إلى صدر الحكومة ، لأن المنتحر سرب معلومات تفيد بأن تقارير الحكومة عن أسلحة العراق للدمار الشامل كاذبة وغير حقيقية . أدى نشر تدخل بلير في قضية التنصت ضجة هائلة مما جعله ينشر تقريرا ينفي فيه تدخله الرسمي في هذه القضية وانه فقط كان يتحدث إلى صديقة طلبت النصح الشخصي منه . لكن افشاء هذه الاسرار التي تتدفق من قضية التنصت يتعارض مع موقف حزب العمال الحالي الذي يطالب بتطويق مؤسسة ميردوخ بالقانون ، حتى لا تستمر في تهديد الحريات بهذا التدخل والنفوذ الضخم لشراء مصادر الاخبار و استخدام لغة الرهبة في ترويج الافكار السياسية واختراق الهواتف للحصول على معلومات تنفرد بها صحف ميردوخ على حساب المؤسسات والصحف الاخرى.. محاكمة ريبيكا بروكس وأندي كولسون تضع صحافة الاثارة في قفص الاتهام ، لأنها تجاوزت القانون وحصلت على الاخبار بطرق غير مشروعة ومجرمة أيضاً . وما تقوم به المحاكمة الآن هو في صالح حرية التعبير وحماية لدور الصحافة ولانقاذها من أباطرة المال والنفوذ والرغبة في السيطرة بتدمير الاسس الاخلاقية وأحياناً العلاقات الاجتماعية بهدف تحقيق الربح والفوز بعناوين تشكل السبق والانفراد .