لا صوت يعلو فوق اصوات صرخات المرضى واستغاثات المواطنين بالمعهد القومي للاورام خلال السنوات الاخيرة, بعد ان تحول المعهد الذي يمثل الامل الوحيد لمرضى الاورام من الفقراء فى مصر, الى ساحة قتال من اجل دخول المستشفى للكشف والحصول على العلاج, والذى تفاقمت اوضاعه بعد اخلاء اكبر مبانيه عام 2009 لتتكدس عيادت الاطفال والباطنة بالمبنى الرئيسي له, ويعمل المعهد باقل من نصف طاقته, ويعجز عن تقديم خدماته العلاجية للكثير من المرضى الذين لا ملجا لهم غيره, ويضرب الاهمال والزحام والعشوائية ارجاء المكان لينذر بكارثة كبرى على صحة المرضى والاطباء والعاملين حال استمرار هذه الاوضاع. بعد ان كان المعهد المركز الرئيسي لعلاج الاورام فى مصر, بعد نشاته عام 1969 وتطورت اوضاعه بعد سنوات من تشغيله ليعمل بطاقة 700 سرير, ويستقبل 25 الف حالة جديدة سنويا, واكثر من 200 الف زيارة متابعة, من مختلف محافظات مصرلتلقي العلاج المجاني, تقلص عدد الأسرة به الى 300 سرير بعد اخلاء المبنى الجنوبي المكون من 13 طابقا لاكتشاف عيوب انشائية به, لينحصر العمل بالمبني الشمالي المكون من 7 طوابق, والمبني الاوسط "4 طوابق", ويتحول المعهد الى ساحة يتزاحم فيها المرضي والاطباء والعاملون فى غرف لا تتعدى الثلاثة امتار تم انشاؤها بوحدات جاهزة فى المكان المخصص لكافيتريا المستشفي بالمبني الاوسط, ليعجز المعهد عن تقديم خدماته العلاجية للكثير من المرضي, ويدخل اغلبهم طابور الانتظار الذي قد يطول الى شهور عديدة فى انتظار عملية او كشف ومتابعة دورية. ينطبق المثل الشعبي القائل " الجواب يبان من عنوانه" على الواقع المؤلم للمعهد القومي للاورام, فعند مرورك بشارع كورنيش النيل, بمنطقة فم الخليج, بجوار مجرى العيون حيث يقع المعهد, لا تجد مكانيا خاليا على جانبي الطريق من المرضى واسرهم, الذين يفترشون الرصيف منذ صباح اليوم وحتى نهايته, فى انتظار دورهم فى اجراء الكشف الطبي وتلقى العلاج اذا حالفهم الحظ واستطاعوا الدخول, او فى انتظار خلو سرير من مريض اخر اكتمل شفاؤه او انتهت حياته, اوينتظرون دورهم لدخول احدى غرف العمليات الخمس التى قد يطول انتظارها لعدة شهور. عند دخولنا من بوابة المعهد وجدنا امامنا ساحة انتظار مزدحمة بالمرضى وذويهم, يسودها حالة من الفوضى والمشادات وصرخات الاطفال ونداءات افراد الامن والعاملين على اسماء سعداء الحظ, الذين جاء دورهم للكشف او استخراج ملف او ورقه مطلوبة لانهاء الاجراءات. قد نجد الكثير من المبررات لتعامل الاطباء والعاملين وافراد الامن بعصبية مع المواطنين, نظرا لحجم الضغط الهائل عليهم وازدحام المكان بالمرضى الراغبين فى العلاج, لكن من الصعب ان تجد مبررا واحدا لهذا المشهد العبثي فى اكبر مستشفى لعلاج الاورام فى مصر, والذي اصبح فى حالة يرثى لها, بعد اخلاء اكبر مبانيه قبل 4 سنوات من الآن, ونقل عياداته الى الاماكن الخالية وكل متنفس بالمبني الرئيسي الذي اصبح يعج بالمرضى والزوار ليل نهار. يقول الدكتور خالد ابو العينين, مدير المعهد القومي للاورام, ان اخلاء المبني الجنوبي تسبب فى ازمة كبيرة بالمعهد, واصبح الضغط كبيرا على المبنيين الاخرين, وتقلص عدد الأسرة بالمعهد الى اقل من النصف, مما خلف طابورا طويلا من انتظار الكشف والعمليات, وخلق حالة من الزحام الشديد بالمعهد, مؤكدا انهم اصبحوا غير قادرين على استقبال اكثر من 50 حالة جديدة يوميا للكشف, نظرا لعدم قدرة المكان على استقبال حالات اكثر من ذلك, بالاضافة الى وجود 5 غرف عمليات فقط بالمعهد, فى الوقت الذي يدخل فيه سنويا 20 ألف حالة جديدة, بخلاف حالات المتابعة التى يحتاج بعضها لاجراء عمليات أخرى فى حالة ظهور اورام جديدة. وحول توقف العمل باكبر مباني المعهد وعدم الانتهاء من اعمال الترميمات به حتى الآن, قال مدير المعهد: "تم اسناد اعمال الترميمات قبل الثورة الى شركة وادي النيل بالامر المباشر, وبدات الشركة على الفور فى العمل بالمبنى, الى ان قام كمال الجنزوري, رئيس الوزراء فى ذلك الوقت بايقاف العمل به, لاعادة طرح الاعمال فى مناقصة, على ان تقوم جامعة القاهرة بعمل كراسة شروط متكاملة واعادة الطرح", مضيفا انه تم الانتهاء منها بمشاركة مركز استشارات الجامعة وعلى وشك طرحها خلال هذه الايام. وطالب "ابو العينين", بان يكون المعهد تابعا لوزارة المالية بدلا من الجامعة فيما يتعلق بميزانيته ومخصصاته المالية, على غرار مستشفيات القصر العيني, لان مخصصات المعهد وميزانيته الحالية ميزانية كلية ملحق بها مستشفى, وهي لا تكفي العلاج والخدمات التى يقدمها, مؤكدا انه فى حالة ان يصبح المعهد تابعا لوزارة المالية سيتم تغطية جزء كبير من نفقاته واحتياجاته, التى يعتمد على التبرعات لتغطيتها وتمثل قرابة 75% منها, فيما تدعمه الدولة ب25% فقط, مشيرا الى ان مصروفات المعهد تتجاوز 120 مليون جنيه سنويا. وحول امكانية انشاء فروع جديدة من المعهد فى عدد من المحافظات, قال "ابوالعينين", هذا الدور يقع على عاتق وزارة الصحة, وهي المسئولة عن توفير الرعاية الصحية لكل المواطنين, مؤكدا ان المعهد يعالج 15% فقط من مرضى الاورام فى مصر والباقى يعالج فى عيادات وزارة الصحة, التى من شانها عمل منظومة متكاملة لعلاج الاورام فى مختلف المحافظات, وان دور المعهد الرئيسي هو التدريب والتعليم واخراج كوادر قادرة على علاج مرضى الاورام وتشخيص حالتهم للعمل فى هذه الاماكن. فيما اكد ان هناك مشروعات للمعهد يعمل عليها الان, ومن ضمنها مستشفى التجمع الاول التى منحتها الدولة للمعهد, وهي عبارة عن مبني مكون من طابقين, يعمل بطاقة 80 سريرا , وبعد مجهودات المعهد وجمع تبرعات اصبح اول مركز فى مصر لتشخيص وعلاج اورام الثدي, بالاضافة الى مشروع المعهد الكبير "500500", والذي يهدف الى انشاء معهد اورام على مستوى عالمي, وخصصت له مساحة 32 فدانا وسيقوم على تصميمه اكبر شركات تصميم معاهد الاورام فى العالم, ويقوم المشروع الذي تقدر تكلفته المبدئيه ب 2,5 مليار جنيه على التبرعات, والتى جمع منها 350 مليون جنيه فقط حتى الآن. ويروي رصيف معهد الاورام معاناة هؤلاء الذين جاءوا من مختلف محافظات مصر يحملون اطفالهم معهم خشية الموت وعدم رؤيتهم مجددا, او خوفا من ان تطول فترة علاجهم فى القاهرة وتركهم لاقاربهم لايام او شهور, كما روى لنا الفلاح البسيط محمود عبدالحميد , 48 عاما, الذي جاء من محافظة المنيا بعد اصابته بسرطان البروستاتا قبل عامين, والذي استلقى على الرصيف امام بوابة المعهد, وجلست الى جواره زوجته وابنه الكبير, فيما تلهو حوله طفلتاه الصغيرتان, وقال لنا انهم يتجرعون الذل فى التعامل ويذوقون الويلات منذ اسابيع, فى انتظار دخول المستشفى وتوقيع الكشف الطبي عليه تمهيدا لاجراء عملية جراحية, بعد ان اكد له الاطباء انه فى حاجة اليها ونصحوه بالمجئ للمعهد, ليجد نفسه امام طابور طويل من الانتظار لا مكان له فيه حتى الآن . وقال تامر حسن, الذي يرافق والدته مريضة السرطان, ان هذا المعهد ياتي له مرضى من جميع المحافظات, وبعضهم ينام فى الشارع على رصيف المعهد فى حالة تاجيل علاجهم ليوم او اثنين, نظرا لبعد محافظاتهم وعدم قدرتهم على تحمل نفقات ايجار غرفه للبيات فيها بالقاهرة, موضحا ان اغلب الذين يضطرون للعلاج هنا من الفقراء الذين لا يملكون المال للعلاج فى المستشفيات الخاصة, وتساءل: لماذا لا يتم صرف المساعدات التى جاءت لمصر بعد الثورة على توفير الرعاية الصحية للمواطنين, وانشاء مستشفيات لعلاجهم بالمجان, مطالبا بعمل فروع للمعهد بالمحافظات لتخفيف الضغط على المعهد فى القاهرة وخدمة اهالى هذه المحافظات, مضيفا ان اى دولة ترغب فى التقدم والنمو عليها ان تهتم بصحة مواطنيها, وان المواطن الذي يتمتع بصحة جيدة يستطيع ان ينتج ويتعلم ويساعد فى بناء وطنه, مؤكدا ان القطاع الصحي اهم من كل المجالات التى ينفق عليها مليارات الجنيهات. فيما وصفت نهير السباعي, التى تاتي مع والدتها الى المعهد منذ عام 1996 الحالة التى وصل اليها الآن قائله : " تردت حالة المعهد خلال السنوات الاخيرة بصورة ملحوظة, تنذر بكارثة كبرى وتشكل خطورة على حياة مرضى السرطان فى مصر, واصبح عنوان المعهد هو الفوضى والاهمال, بعد ان كان من افضل مستشفيات علاج الاورام فى مصر, حيث تنتشر الحشرات وتجد بلاعات الصرف الصحي مفتوحة فى كل مكان بالمعهد, واصبحت الحمامات مكانا للوباء وتصيب من يدخلها بالمرض, ولا يوجد بها احواض او مياه وتفوح رائحتها بالمكان, واصبحت اوضاع المعهد سيئة للغاية, وقد يصاب المرضى بامراض على مرضهم من ترددهم على المكان الذي اصبح خاليا من اى متنفس, بعد تكدس العيادات فى كل مكان ونقلها من المبني الكبير فور اخلائه". كما انتقدت "السباعي", اصدار المعهد لقرار يوصي بتحويل كل مرضى سرطان الثدي الى مستشفى التجمع الاول, دون مراعاة المرضى كبار السن الذين يصعب عليهم التنقل لمسافات طويلة, ولا يتحملون مثل هذا المشوار فى ظل عدم توافر المواصلات من والى هناك. فيما قالت الاستاذة ماجدة, مدير عيادات الباطنة بالمعهد, ان الضغط عليهم هنا اصبح كبيرا جدا بعد اخلاء المبنى الجنوبي, وان لديهم حالات لوكيميا كثيرة على قوائم الانتظار لمدة شهر كامل, نظرا للضغط الكبير وعدم قدرة المعهد على علاج جميع الحالات فى الوقت الراهن, مضيفه انه فى الوقت نفسه يشتكي مرضي حالات سرطان الثدي من تحويلهم الى مستشفى التجمع الاول, فى حين ان هناك افضل لهم بكثير من المعهد لتوافر الاجهزة والامكانيات هناك. وقالت ميرفت فوزي, شقيقة احدى المريضات, انها تاتي مع شقيقتها المريضة كل ثلاثة ايام الى المعهد للمتابعة, وتعاني من سوء المعاملة والزحام واهمال الاطباء, حيث قام الطبيب المعالج لشقيقتها قبل ايام بسحب ثلاثة اكياس دماء منها بدلا من كيس ونصف الكيس كما اوصى طبيبها من قبل, مما ادي الى سقوطها مغشيا عليها, واضافت: " لولا ستر ربنا كان زمان اختي ماتت", مضيفه انه فى مواعيد جلسات الكيماوي ياتون منذ صباح اليوم ويغادرون المعهد بعد الثامنة مساء نظرا للزحام ودورها فى الجلسات . فيما قالت مها من سوريا, انها ووالدها مريض سرطان البروستاتا, ياتيان الى المعهد منذ 4 ايام لاستخراج بطاقة تمكن والدها من اخذ حقنة, وانهما يلقيان معاملة سيئة للغاية من العاملين بالمستشفى, ويتعرضان للاهانات فى كل لحظة, و تقف يوميا على شباك واحد يقوم بتقديم خدمات العلاج والاشاعة وكل شئ, حسب قولها, وتفشل محاولاتها لاستخراج البطاقة لاسباب تراها غير مقنعه, وحتى الآن لم ياخذ والدها الحقنه وحالته تسوء يوما بعد الآخر. ومن ناحية اخرى وجهت زمزم محمود, 55سنة, الشكر للمعهد وجميع العاملين به من اطباء وممرضين وعاملين , بعد رحلة علاج دامت لثلاث سنوات انتهت بشفاء ابنة شقيقها, قائلة: " لولا هذا المكان وفضل ربنا كان زمان بنتنا ماتعلجتش ولو كنا بيعنا البيت والعفش", مطالبة بالتبرع للمعهد والاهتمام به, لما يقدمه من علاج مجاني لغير القادرين على تحمل نفقات مثل هذه الأمراض. وقبل ان نغادر المعهد قمنا بزيارة عيادات الاطفال, التى تم انشائها بعد اخلاء المبني الجنوبي فى المكان المخصص لكافتيريا المبنى الرئيسي بالمعهد, لنجد غرفا لا تتعدى الثلاثة امتار, يتكدس بها اعداد كبيرة من الاطباء والممرضات والمرضى, فى مشهد يروي ماساة معهد الاورام وما الت اليه اوضاعه خلال السنوات الاخيرة. وفى احدى هذه الغرف تحدث الينا عدد من الاطباء والممرضات, بعد ان اشترطوا عدم ذكر اسمائهم, وكشفوا لنا عن ان المبنى الذي تم اخلاؤه لم يكن به اى عيوب انشائية, واوضحوا ان اخلاء المبنى كان متعمدا وانه لن يعمل مجددا, مؤكدين ان قرار الاخلاء جاء سريعا دون مبررات حقيقية, وقالوا لهم خلال اسبوع سيتم اخلاء المبنى دون اى مقدمات. واضافوا ان اوضاعهم الآن غير ادميه ولا يتحملها بشر, حيث اصيب بعضهم بالعدوى وجميعهم اصبحوا يشتكون من عظامهم, موضحين ان المكان الحالي لا يصلح للعمل ولا يوجد به اى متنفس او تهوية, متسائلين : " لماذا تم اهمال المعهد الذي يعالج اغلب مرضى الاورام فى مصر ويستقبل يوميا عددا هائلا من الحالات بهذه الصورة, مضيفين: لمصلحة من هذه الاوضاع التى وصل اليها المعهد, فى حين يهتم الجميع بمستشفى "57357" الذي لا يعالج إلا حالات معينة من الاطفال فى الوقت الذي يعالج فيه المعهد جميع الحالات من الكبار والصغار.