أكتب هذا المقال تتمة لمقال سابق يحمل عنوان :"موقف الصهاينة و الأمريكان من محنة الإخوان",حاولنا فيه تفسير السؤال المحير لعنوان مقالنا هذا علي الرغم من يقينها بأن ما جري في 30 يونيو يمثل الموجة الثانية من ثورة 25 يناير؛تلك التي شارك فيها عشرات الملايين من الثوار المصريين المطالبين بإسقاط النظام الإخواني الحاكم؟و لماذا تخلت عن فلسفتها"البرجماتية"-المعهودة-لتراهن علي عودته المستحيلة ضد إرادة شعب و دولة بجميع مؤسساتها التليدة تؤازرها معظم الشعوب العربية التواقة للخلاص من إسار التبعية لرعاة البقر"اليانكيين"؟ أكتب هذا المقال عقب نجاح أسود أجهزة الشرطة المصرية الوطنية في فض اعتصامي"النهضة"و"رابعة العدوية"ببراعة مذهلة و غير مسبوقة خلال ساعات و أقل درجة ممكنة من الضحايا.هذا علي الرغم من تحويل"الإرهابيين" المتمترسين بالموقعين مكاني الاعتصام إلي قلعتين مدججتين بالسلاح و العتاد,و مشحونتين بميلشيات الجماعة و ذيولها من الإرهابيين"الإسلامويين"العتاة؛فضلاً عن حلفائها من"الحمساويين"و مرتزقة"القاعدة"و"الطالبان"و"الشيشان"و غيرهم من"الجهاديين"؛بله"أعداء الدين". كان وقع هذا النصر المؤزر"برداً و سلاماً"علي قلوب المصريين و معظم الشعوب العربية-و غير العربية-لا لشيء إلا لأنه"مسك الختام"لخلاص الشعوب الحرة من "خفافيش الظلام"من ناحية,و هزيمة صادمة لأسيادهم في واشنطن و تل أبيب و اسطنبول و الدوحة؛من ناحية أخري.و من ناحية ثالثة كان هذا النصر بشري واعدة لثوار"الربيع العربي"في تونس و ليبيا و اليمن و غيرها. برغم ذلك لا يفوتني أن أنبه الثوار العرب في كل الأقطار إلي عدم الاستسلام و الاسترخاء لسكرات الانتصار؛فالثورة المصرية لا تزال مهددة بالأخطار؛بل ربما أكثر من أي وقت مضي؛لعدة أسباب أوجزها فيما يلي: (أولاً): يكمن الخطر الأول-و الأخف-في حقيقة كون خصوم الثورة من"الإسلامويين"بكافة تياراتهم إرهابيين احترفوا و برعوا في النشاط السري المنظم.لذلك ستشهد المرحلة الآتية أفعالاً إرهابية؛كالاغتيال,و إحراق مؤسسات الدولة-خصوصاً أقسام الشرطة-و تفجير المفرقعات في أماكن التجمعات الشعبية…وغيرها؛بهدف إشاعة الفوضي؛و ذلك بمباركة و مساعدة"سادتهم"في الخارج. لذلك أتوقع من أجهزة الأمن مواجهة هذا النشاط التخريبي باليقظة و الحزم.و في هذا الصدد لا مناص من قيام الحكومة الحالية بإصدار قوانين استثنائية لحماية رجال الأمن من ناحية,و تشكيل لجان شعبية معاونة؛علي غرار"لجنة الأمن العام"التي شكلتها الثورة الفرنسية. (ثانيا): أما الخطر الأكبر؛فيتمثل في الولاياتالمتحدةالأمريكية التي لن تدخر وسعاً في محاولة إجهاض الثورة.لذلك أذكر الثوار بما أعلنه"أوباما"-عشية خلع الرئيس الأسبق-بأنه"لن يسمح بوجود نظام ثوري يشكل خطراً علي إسرائيل و المصالح الأمريكية في المنطقة".و قد صدق وعده حين آزر جماعة الإخوان في الوصول إلي الحكم؛كما هو معروف,و كان ولايزال يراهن علي عودتهم؛و هو ما سنوضحه بعد هنيهة. من أجل ذلك؛سيعول علي عدة مخططات؛أولها الحصار الاقتصادي-جرياً علي سياسة أسلافه إزاء كوبا و إيران و ثورات أمريكا اللاتينية.و في هذا الصدد؛سيحول دون وصول مساعدات اقتصادية إلي مصر-المنهوكة مالياً-سواء من لدن المؤسسات المالية العالمية-كصندوق النقد الدولي و البنك الدولي و غيرها-أو من جانب دول الاتحاد الأوروبي.و لن يدخر وسعاً لبذل جهود و ضغوط علي دول الخليج العربي في هذا المجال؛ما أمكن.علي أمل اندلاع ثورات اجتماعية-انتفاضات الجياع-تسهم بدورها في تفاقم المزيد من المشكلات التي ترغم مصر علي الخضوع و الخنوع. لذلك؛وجب علي الحكومة المؤقتة في مصر أن تضع هذا المخطط في الاعتبار؛باستنان سياسة اقتصادية تقشفية-اقتصاد حرب-و المبادرة باتخاذ إجراءات تخدم"البعد الاجتماعي"كتحديد الحد الأقصي و الأدني للأجور و فرض ضريبة تصاعدية علي كبار رجال الأعمال,فضلاً عن رفض"المعونة الأمريكية"استجابةً لمطلب شعبي واع.و لا يخالجنا أدني شك في مبادرة الدول العربية الشقيقة في دعم الاقتصاد المصري للخروج من"عنق الزجاجة"؛خصوصاً أن عودة نظام"المعزول"يعني استئناف تنفيذ المخطط الأمريكي -الصهيوني- الإخواني بإعادة رسم خريطة العالم العربي-جيوبوليتيقيا-بتقسيمه إلي كيانات قزمية إثنية و طائفية تجمعها وحدة"شكلانية"هشة تتمثل في إعلان"الخلافة الإسلامية"المزعومة؛و هو ما يعني إسقاط النظم العربية الحالية. الحرب الباردة لإفشال هذا المخطط يجب استثمار الحرب الباردة حالياً بين روسيا و الصين من جهة و الغرب الإمبريالي من جهة أخري و ذلك و التلويح بانضمام مصر إلي المعسكر الأول؛خصوصا أنه أعلن استعداده للدفاع عن الثورة المصرية ضد خصومها التقليديين.هذا بالإضافة إلي رغبة الروس-علي نحو خاص-للانتقام من جماعات الإسلام السياسي الذين لم يتورعوا عن مناصرة و دعم أنصارهم في الشيشان. ثمة مخطط آخر-علي المدي القصير-يراهن علي توحد جميع التيارات الإسلاموية؛لتدخل الانتخابات الرئاسية و البرلمانية في مواجهة التيارات العلمانية-المتصارعة المتشرذمة كالعادة-بما يضمن نجاحها في العودة إلي الحكم مرة أخري. لمواجهة هذا المخطط؛لا مناص من النص في الدستور الجديد علي حرمان الأحزاب الدينية من النشاط السياسي لعشرة أعوام علي الأقل؛فضلاً عن مادة تحرم تكوين الأحزاب علي أساس ديني.و لا بأس من التذكير بسياسة الزعيم عبد الناصر في هذا الصدد,و نجاحه في التصدي لقوي"الثورة المضادة"في الداخل و الخارج؛كما هو معروف.و الأهم من ذلك التعويل الصارم علي تطهير المجتمع المصري من جرذان الإسلامويين وفق سياسة"النار و الحديد"دون هوادة أو رحمة؛لقطع دابرهم باعتبارهم حجر الزاوية في تنفيذ المخطط الصهيوني الأمريكي. (ثالثاً): أما الخطر الأعظم؛فيتمثل في التدخل العسكري الأجنبي المباشر لإسقاط الثورة المصرية.قد يستبعد البعض هذا التصور لعوامل كثيرة-لا يتسع المجال لسردها-لعل من أهمها ما أسفرت عنه التدخلات العسكرية في العراق و أفغانستان -وحتي الصومال التي سحلت مغاوير مشاة البحرية الأمريكية في شوارعها -فضلاً عن ضغوط الرأي العام الشعبي الأمريكي المعروف في هذا الصدد خصوصاً بعد مآسي حرب فيتنام. لكن تصورنا يطيح بتلك المحاذير؛خصوصاً إذا ما تعلق الأمر بمصر.إذ من المعلوم-تاريخياً-أن مصر علي مر العصور كانت -و مازالت رغم ظروفها الراهنة-"رمانة الميزان"في المنطقة؛سياسياً و عسكرياً و حضارياً.و مازال الجيش الوطني يشكل"صمام أمان"للعروبة و الإسلام؛خصوصاً بعد الإجهاز علي الجيوش العربية الكبري في دول الشرق الأوسط.و مصر-حسب جمال حمدان-هي قلب العروبة و حصن الإسلام؛كما هي"قلب العالم"؛حسب حكم ماكندر و هاوس هوفر وسبيكمان و كلاوفتز؛ وغيرهم من مشاهير أعلام الإستراتيجية.و من ثم فإن الإجهاز علي"القلب" يعني موت جميع أعضاء"البدن".و من هنا؛فإن نجاح الثورة المصرية يعني نجاحها في دول"الربيع العربي". كما يعني تقديم أنموذج لدولة مدنية ديمقراطية حديثة,و بفضل مقدراتها الطبيعية الهائلة,و الإستراتيجية الفريدة؛لديها القدرة علي إحراز التحرر و لفظ التبعية,و التنمية المستقلة المستدامة.و هذا يعني في التحليل الأخير-وضع حد للهيمنة الأمريكية في العالم العربي؛ بل تهديد موارد الطاقة بالنسبة لدول الغرب الإمبريالي.أو علي الأقل حرمانها من"الأسواق العربية الكبري"بما يهدد وجودها أصلاً,و يعجل بسقوط الرأسمالية ذاتها؛ خصوصاً أن نجم الإمبراطورية الأمريكية يعارك مرحلة الأفول.و نعلم أن"الاتحاد الأوروبي"-بالمثل-في الطريق إلي التشرذم من جراء الأزمات الاقتصادية التي تهدد دوله بالإفلاس. خفافيش الظلام أما و الحال علي هذا النحو؛فلا مناص من تصدي قوي الغرب"الآفلة"كي تحارب معركتها" الأخيرة"في مصر,و ذلك بالإجهاز علي ثورتها"الأنموذج"و المظفرة.إنهم علي وعي تام بتلك الحقائق الصادمة؛و لهم في تجربتي محمد علي و عبد الناصر خير مثال.إنهم يرون في المارشال"السيسي"استمراراً لأبيه"عبد الناصر"؛و من ثم وجب وأد زعامته في مهدها..!! إنه بجسارته و تقاه و إبائه و ذكائه ووطنيته و هدوئه"المحير"إفراز للثورة المصرية أنجبته بطن مصر"الولادة"ليقود العرب إلي أنوار عصر جديد بعد خلاصهم من"خفافيش الظلام". لذلك؛ثمة مخطط تنسج خيوطه لوقف عجلة التاريخ؛فحواه-فيما نري-سيجري وفق"السيناريو"التالي: دعم النشاط الإرهابي الإسلاموي لإشاعة الفوضي في الداخل؛خصوصاً باغتيال بعض الزعامات المسيحية الوطنية,و إحراق المزيد من الكنائس,و الإغارات المتكررة علي مشروعات رجال الأعمال المسيحيين,و حوانيت الصاغة و نهبها بعد قتل أصحابها؛بما يشي بتعاظم الفتنة الطائفية,و اتخاذها ذريعة لاستصدار قرار من مجلس الأمن بتطبيق"الفصل السابع"من ميثاقه الذي يتيح التدخل العسكري المباشر. أما إذا أخفق هذا المخطط-عن طريق الفيتو من قبل أحد أعضاء الدول الأربع الكبري-يجري لإعداد ل"سيناريو" آخر؛علي النحو التالي: العمل علي تعاظم النشاط الإرهابي في سيناء ,أو إطلاق بعض الصواريخ-عن بعد- علي إحدي السفن المارة بقناة السويس؛و اتخاذ ذلك ذريعة لإعلان تهديد حركة الملاحة الدولية,و التدخل العسكري لضمان سلامتها..!! في حالة الفشل؛يجري تنفيذ"سيناريو"ثالث علي النحو التالي: إنهاك الجيش المصري من جراء مواجهة الإرهاب في جميع ربوع مصر؛فضلاً عن سيناء,و حض إرهابي سيناء علي توجيه صواريخهم إلي إسرائيل؛و معلوم أن معظم تلك الجماعات علي صلات بأمريكا و إسرائيل و الإسلامويين في مصر.و عندئذ تعلن إسرائيل عن عجز الجيش المصري في مواجهة الإرهاب,و تصديها لمواجهته بالتدخل العسكري الذي يتيح لها ضم سيناء؛كما تتصور,وتحلم. عندئذ؛تندلع الحرب بين مصر و إسرائيل؛و يجري"خلط الأوراق"عن كثب؛و"ينفض السامر"؛بالدخول في"النفق المظلم". تلك رؤية مؤرخ لديه القدرة علي استشراف المستقبل؛و قد يكون مخطئاً ذا رؤية مضببة؛كما قد يري الكثيرون. لكن الثوري الحق؛عليه أن يوسع دائرة مخياله,و يضع اعتباراً لكل الاحتمالات؛حتي لو كانت أوهاماً..!! و نحن علي قناعة تامة,و ثقة غير محدودة في بعد نظر قادة جيش مصر الوطني؛الذين يعرفون و يعوون أهمية تلك الممكنات و الاحتمالات.و الأهم؛أنهم لا تعوزهم القدرة علي مواجهتها بنجاح.و ما النصر إلا من عند الله,إنه نعم المولي و نعم النصير.