استطرادا لما ذكرته في المقال السابق بصدد محاضرة «المأثور الشعبي مصدرا لدراسة التاريخ» التي ألقيتها في كلية الآداب بمكناس أمضي بالقارئ في رحلة للترويح عن النفس – نفسي ونفسه بطبيعة الحال – بعد إزعاجه علي مدار ما يقرب من شهور عشرة بنحو أربعين مقالا في «الأهالي» عن غرائب وعجائب الإسلامويين في مصر في محاولة لفهم هويتهم الغامضة، وسلوكياتهم الغرائبية مذ غادروا السراديب والكهوف وظلام الزنازين لتولي عرش الفراعين، وإذ أعترف بعجزي في تحقيق هذا المقصد، أرد هذا العجز إلي أخطاء منهجية، قوامها التعويل علي مناهج عقلانية صارمة، ووضعانية تطورية، ومادية تاريخية، وفرويدية سيكولوجية، بل عجزت مناهج الأنثروبولوجيين في دراسة الإنسان في عصور ما قبل التاريخ عن تحقيق الهدف المنشود. والحق أنني لم أجرب بعض مناهج القدماء – من أمثال الجاحظ والدميري – في استبطان طبائع الحيوانات والكشف عن مكنوناتها، احتراما لكينونة الإسلامويين كبشر – مثلي ومثلك – يأكلون الطعام، ويمشون في الأسواق، بالمثل وللسبب ذاته لم أقارب منهج «القزويني» في فهم الإسلامويين، باعتبارهم ضمن من كتب عنهم في كتابه الفريد «عجائب المخلوقات»، لا لشيء إلا للالتزام بالكياسة والتعفف، علي الرغم من كونهم خلوا من مكارم الأخلاق التي لا يدخرون وسعا في الدعوة إليها، باسم الإسلام الحنيف. وإذ وجدت ضالتي – في مقال سابق – متمثلة في مناهج دارسي «الميثولوجيا» التي عولت عليها حين توصلت إلي أنهم هم من ورد ذكرهم في التوراة والإنجيل عن «المسيح الدجال»، ومن أشار إليهم الرسول – صلي الله عليه وسلم – في بعض أحاديثه النبوية، والإمام علي بن أبي طالب في بعض مأثوراته في كتابي «الجعفر» و«علم الحدثان»، لم أجد سببا يحول دون المضي قدما علي هذا النهج. ومن غريب الاتفاق أن عميد كلية الآداب بمكناس سألني عن موضوع المحاضرة الثانية، فكتبت له أربعة عناوين، وكان اختياره – والأساتذة – بالإجماع علي موضوع «المأثور الشعبي»..!!، وعشية اليوم السابق علي إلقاء المحاضرة كنت أتصفح في صالة الفندق صحيفة مغربية، ففوجئت بخبر مهم عن «ظهور الإمام محمد المهدي المنتظر» في إيران بعد انتظار دام ما يزيد علي اثني عشرة قرنا من الزمان!! عندئذ، استخرت الله وعقدت العزم علي الخوض في عالم «الميثولوجيا» لتفسير ما يجري في مصر الآن من غرائب وعجائب «المسيح الدجال»!! كان علي قبل الخوض في عرض نبوءة الدجال، أن أعرف بمفهوم «النبوءة» في التاريخ والتراث الإسلامي، ولأن الحضور كان يتصدرهم أساتذة من العلماء المرموقين، أجلت – إلي حين الحديث بلغة العوام الذين أبدعوا هذا المأثور التراثي الشعبي الشفاهي، وتركوه لنا معشر العلماء لدراسته وتفسيره بفك رموزه والوقوف علي دلالاته التاريخية والمعرفية وفق مناهج حداثية، كالألسنية والسيموطيقا والبنيوية التفكيكية والهرمونيطيقا ونحوها. أثار الحديث النظر عن «النبوءات» اهتمام الحضور، كما حظيت ما قدمت من نماذج عن نبوءات «أصحاب الرايات السود» و«المهدي المنتظر» و«السفياني المنتظر» المزيد من الإعجاب خصوصا بعد إثبات أن النبوءات لم تكن مقصورة علي فرق الشيعة فقط، بل شملت كل الفرق الإسلامية، ومن بينها «أهل السنة والجماعة». شمل العرض أيضا حديثا علميا عن «كرامات» الصوفية التي عمت بلاد المغرب طوال عصور التاريخ الإسلامي، والتي قدم عالم النفس القدير مصطفي زيعور دراسة جد مهمة بصددها تتسم بالتحليل العلمي الدقيق، بعد توفيقه في إبداع منهج جديد يجمع بين علم النفس والاجتماع والتاريخ. وإذ أسهم المحاضر بجهد محمود في هذا الصدد في كتابه «الأسطغرافيا والميثولوجيا»، حيث تمحورت دراسته عن «الكرامات» حول نصوص الرحالة المغربي الأشهر ابن بطوطة، لاقت تفسيراته استحسان الحضور، خصوصا بعد أن أثبت أن التصوف المغربي تميز عن التصوف في الشرق بطابعه المعرفي الثوري النضالي والفلسفي، بينما غرق نظيره بالشرق في ضبابيات الخرافة والشعوذة وموالاة الحكام الطغاة. مع ذلك، لم يهنأ الحضور بنشوة الزهو طويلا إذ باغتهم المحاضر في حديثه عن السحر والطلاسم والنارنجيات ونحوها بأنها «إنجاز مغربي»..!! مستشهدا في ذلك بموقف «صديقه اللدود» ابن خلدون الذي أصر في مقدمته علي كونه علما تحقق بنفسه من مصداقيته ونحي باللائمة علي منكريه واصفا إياهم ب «ناقصي العقول» هذا في الوقت الذي أفرد فيه بابا يندد فيه بالفلسفة ومنتحليها من اليونان والمسلمين..!! بعد إلقاء المحاضرة، توجه الكثيرون من الحضور بأسئلتهم وتعقيباتهم ومداخلاتهم التي انصب معظمها علي أوجه الشبه وأوجه الخلاف بين التيارات الإسلاموية في الشرق والإسلامية في الغرب. من جانبي، آثرت الحديث عن الشرق، وتركت لبعض تلامذتي النجباء التعريف بالتجربة الأصولية المغربية، خصوصا بعد وصولهم إلي الحكم. أوضحت للحضور مدي فشل الإسلامويين في تسيير شئون الحكم، إذ أظهروا عجزا فاضحا ينم عن جهل بأولويات السياسة مصداقا لحكم ابن خلدون بأن «رجال الدين أبعد الناس عن السياسة.. لذلك يعرضون أنفسهم للمهالك»، والأهم، أن هذا الفشل – فضلا عن أسباب أخري سلوكية ولا أخلاقية – كان «رحمة من السماء»، إذ أدركت الشعوب مدي إتجارهم بالدين طلبا للدنيا، فانفضت عن تأييدهم تماما، بل تنتظر «يوما موعودا» للانقضاض عليهم وسحلهم في الشوارع، خصوصا بعد كشف مخطط صهيوني – أمريكي لحل القضية الفلسطينية علي حساب التراب الوطني في سيناء، وتفريط النظام الحاكم في حلايب وشلاتين لصالح النظام الإسلاموي الحاكم في السودان. ناهيك عن خروج الجماعات السلفية عن طاعة النظام الحاكم، لا لشيء إلا لاستئثاره بالسلطة متخليا – كعادته – عن تعهداته ووعوده بمشاركتهم في نصيب من «الكعكة»، بل إن بعض زعامات الإخوان المسلمين أعلنوا الانسحاب من الجماعة، لينسحب معهم رديف من الشبان وتأليف أحزاب سياسية مستقلة. أما في سوريا، فلايزال الصراع محتدما بين النظام الحاكم والثوار المؤيدين ببعض النظم العربية الرجعية، وطوائف من المرتزقة، فضلا عن الجماعات الدينية المتطرفة. في ليبيا، وقع ما لا يحمد عقباه، إذ نتيجة للصراع بين التيارات الإسلاموية من أجل السلطة، سقطت هيبة الدولة مفضية إلي تقسيمها إلي كيانات ثلاثة، علي غرار ما جري في السودان والعراق والصومال. أما تونس، فقد ذكر الصديق الدكتور محمد حسن – المؤرخ التونسي الشهير الذي شارك في مناقشة رسالة الدكتوراة بمكناس – أن تطور الأوضاع بها تجري – فعلا بفعل – في ذات المسار المصري المنذر بنهاية حكم الإسلامويين في القطرين الشقيقين. بخصوص الحكومة الإسلامية في المغرب، أشار المتحدثون المغاربة إلي أن صمام الأمان الذي يقف حائلا دون طغيانهم يتمثل في الملك محمد السادس الذي نجح ليس فقط في فل شوكتهم، بل في إظهار عجزهم وفشلهم السياسي أيضا. خلاصة القول، إن نجاح التيارات الإسلامية في الوصول إلي الحكم في بعض الأقطار العربية أمر موقوت حدث بتدبير أمريكي – صهيوني يستهدف إجهاض ثورات «الربيع العربي» – وهو ما حدث بالفعل – ثم الإجهاز علي جماعاتهم تماما علي أيدي شعوبهم في القريب العاجل.