أسبوع قضيته في المغرب إبان زيارتي الأخيرة، أثار في نفسي الكليلة وبدني المكدود مواجع الحزن والشجن، إذ عدت إلي الوطن مهموما مكلوما، علي غير العادة، إذ كانت زياراتي للمغرب – التي شرفت بالإقامة بين ربوعه الخضراء وشعبه الذي احتضنني عشر سنوات بعد أن لفظني الوطن إبان عهد السادات – كل عام علي مدار ثلاثة عقود من الزمان بمثابة ترياق أدمنته لمواصلة النضال إبان عهد «المخلوع». كان برنامج الزيارة الأخيرة يتضمن مناقشة رسالة دكتوراة – بإشراف أحد تلامذتي النابهين – وإلقاء محاضرتين في كلية الآداب بمكناس، وثالثة بجامعة «الأخوين» بإفران، لم أتمكن من إلقائها لا لشيء إلا لإصابتي فجأة بوعكة صحية كان مبعثها الحسرة والأسي علي ما حل ب «المحروسة» و«أم الدنيا» من كوارث يشيب لها الولدان، عندئذ عجز اللسان عن البيان، وعدت إلي الوطن «المخطوف» عودة الغريب إلي أمه الثكلي..!! إسلاميون متفتحون كانت المحاضرة الأولي بعنوان «ثورات الربيع العربي بين تردي الحال وضبابية المآل»، وكان الحضور كثيفا كالمعتاد، حشود من الطلبة وجموع من أساتذة الكلية وكليات أخري من تلامذتي في جامعات المغرب كافة، الذين أصبحوا أساتذة مرموقين – أربعة منهم صاروا عمداء حاليا – هلت من مدن المغرب لسماع صوت شيخهم العجوز بصدد موضوع الساعة في عالمنا العربي المبتلي بحكومات ثيوقراطية أجهضت ثورات الربيع العربي بالتواطؤ مع الإمبريالية، لتعود به إلي عصور الظلام، ويا للأسف باسم الإسلام..!! بديهي أن تسفر المحاضرة عن حوار طويل وخصب في آن، ولا يتسع المجال إلا لإثبات بعض الانطباعات العامة – من جانبي – عما جري. الإسلام والعلمانية أو ما أثار دهشتي أن الأساتذة ذوي الاتجاهات الإسلامية استقبلوا بصدر رحب وبعقل مفتوح مقولات المحاضر الحادة بصدد إسلاموي الشرق، علي الرغم من كون بعضهم من الإخوان المسلمين، ومعظمهم من السلفيين.. لقد شاركوا المحاضر آراءه عن «الإسلام الثوري»، وشريعة الإسلام السمحاء، وفق «المصالح المرسلة»، بل إن أحد الأساتذة أثار مسألة موقف الإسلام من العلمانية، وردد عبارات من مقال لي نشر بجريدة «الأهالي» – منذ ثلاثة شهور – بعنوان «علمانية الإسلام»، وذكر أنه رغم عدم اتفاقه مما ورد به من آراء، إلا لأنه لا يستطيع دحضها لاستناده إلي آيات قرآنية وأحاديث نبوية، فضلا عن نصاعة البرهان وقوة الحجة، لذلك، أصابته نوبة شك طلب من المحاضر العون والمساعدة علي الخروج منها، وإذ سأله المحاضر عما إذا كانت جريدة «الأهالي» تصل إلي المغرب، أجاب وبعض الحضور بأن صحيفة «الأحداث المغربية» تواظب علي نشر المقالات التي يكتبها المحاضر بجريدة «الأهالي» بل إن الكثيرين من المثقفين المغاربة يتابعونها بشغف واهتمام بالغين..!! أثار دهشتي أيضا، من التفاف أساتذة قسم الدراسات الإسلامية حول المحاضر – بعد انتهاء المحاضرة ولاحقوه إلي غرفة العميد، وألحوا عليه بأن يستضيف المحاضر لأسبوع آخر لإلقاء المزيد من المحاضرات «المعمقة» – حسب تعبير أحدهم – علي أساتذة القسم، فوعدهم بتحقيق طلبهم بعد انقضاء موسم الامتحانات. ضد حسن حنفي علي أن ما أدهشني – بحق – هو «ثورة» الكثيرين من المثقفين المغاربة علي الصديق حسن حنفي – الذي حظي بمكانة مرموقة لديهم – لا لشيء إلا لأنه كتب مقالا في إحدي الصحف المصرية يؤيد فيه ويدافع عن حكم الإخوان المسلمين بمصر، علي الرغم من كون الكثير من كتاباته – في نظرهم – كانت تشيء بإلحاده!!، لم أستطع تقديم إجابة عن تساؤلهم هذا، معتذرا بأنني لم أطلع علي هذا المقال. التنكيت والتبكيت أثناء إلقاء المحاضرة، عرضت لمثالب النظام الحاكم في مصر، وتندر المصريين بشخوصه وسلقهم بألسنة حداد، كأسلوب تميز به المصريون علي امتداد تاريخهم، حيث اشتهروا ب «التبكيت والتنكيت» أداة للسخرية من الطواغيت، مثلت لذلك ببرنامج «البرنامج»، حيث خانتني الذاكرة في ذكر صاحبه، ليسعفني صوت أحد الحضور بلكنة مصرية بأنه «باسم يوسف»، التقيته بعد المحاضرة يتحدث بأسي وأسف شديد عما يجري في مصر الآن، وأخبرني أنه وأسرته هجروا الوطن لائذين بالمغرب، بعد أن كانت مصر طوال عصور التاريخ ملاذا وموطنا للعرب والأجانب – من الشوام واليونانيين والطليان والأرمن وغيرهم، بل كانت مستودعا ومستقرا لزعماء حركات التحرر الوطني في العالم العربي خصوصا زعماء العالم الثالث في آسيا وأفريقيا بوجه عام. في اليوم التالي، ألقيت محاضرة بعنوان «المأثور الشعبي مصدرا لدراسة التاريخ» وعرضت – ضمن ما عرضت – لأهمية الأساطير الخاصة بتأسيس بعض المدن المغربية في العصر الإسلامي. وذكرت بعض الأمثلة عن أساطير أفدت منها في حلحلة إشكاليات عن تأسيس مدينة فاس، فوجئت بشاب مصري – مدرس مساعد بكلية الآداب بطنطا يؤكد في – مداخلته – أنه تمكن من خلال دراسته للمأثورات الشعبية الخاصة بمدينة «مكناس» أن يقف علي حلول ناجعة كتلك التي قدمتها بخصوص مدينة فاس، وبفضلها حصل علي درجة الماجستير في الآثار الإسلامية، وهو يقيم الآن بمدينة مكناس يعد رسالته للدكتوراة. وحين ناوشته ضاحكا بأنني أخشي عليه من سحرها الآسر الذي لن يسمح له بالعودة إلي مصر، أكد أنه عقد العزم علي ذلك!! تلك محض انطباعات وخواطر وسوانح آثرت أن أسجلها – في هذا المقال الضاحك الباكي – لاستكناه دلالاتها المؤسفة، بهدف استجاشة همم شباب ثورة 25 يناير لاسترداد ثورتهم التي اختطفها «تجار الدين». بعد العودة إلي الوطن، فكرت مليا مقارنا بين الأوضاع المتردية في مصر، ونظيرتها المزدهرة في المغرب معللا ومفسرا، بل عدت إلي ذكريات إقامتي في المغرب مجترا أحلام العودة إلي الوطن مراهنا علي أمل اندلاع الثورة في مصر، لتمتد إلي سائر شعوب العروبة، آنذاك كنت شديد الإعجاب بسياسة الملك المرحوم الحسن الثاني، برغم كوني يساريا ينشد قيام جمهوريات شعبية، وكان هذا الإعجاب يثير ثائرة الرفاق المصريين والمغاربة علي السواء. لم يكن هذا الإعجاب صادرا من فراغ، إذ كنت ومازلت علي قناعة بأن الشعوب العربية تفتقر إلي الوعي، لأسباب يطول ذكرها ، وأنها بحاجة إلي «المستبد العادل»، حسب رأي الإمام محمد عبده، أو إلي «المستبد المستنير» حسبما أعتقد، ولنا في التجربة الناصرية خير دليل، كما كان مغرب الحسن الثاني مثالا آخر بالغ الدلالة، إذ كان مهددا بالتمزق إلي كيانات مستقلة ثلاثة – الريف – الجنوب – وما بينهما – حسب معطيات الجغرافيا السياسية، والعرقية، وحتي الثقافية، وهو ما نجح الحسن الثاني في الحيلولة دون وقوعه، وأذكر بعض مقولاته التي تعكس سياسته الرشيدة، مثل مخاطبته شباب الجامعات بقوله: تسيسوا.. تسيسوا فإني مباه بكم الأمم»، في الوقت الذي حظرت فيه السياسة علي شباب جامعات الشرق، كذا قوله بأن «دمقرطة المغرب يجب أن تتم قطرة قطرة»!! وهو ما تحقق في المغرب علي يد الملك النابه «محمد السادس». حسبنا – في نهاية هذا المقال – أن نسجل براعته في تحاشي رياح ثورات الربيع العربي المأسوف عليها بعد العودة بشعوبها إلي «عصور الظلام». ناهيك عن الفوضي والتردي الاقتصادي والاجتماعي، بله الأخلاقي، لقد سمح بوصول الإسلاميين إلي الحكم سلميا، فضرب بذلك «عصفورين بحجر واحد» إذ باشر هيمنته علي مقاليد الحكم ضمانا للاستقرار من ناحية وتعرية حكومتهم بإظهار عجزها وفقرها السياسي من ناحية أخري، وعلي الرغم من حدة المشكلات الاقتصادية، لكن الأحوال العامة في المغرب أحسن حالا – حسب تقارير المؤسسات الاقتصادية الدولية – من جميع دول «الربيع العربي» بمراحل. ونحن في غني عن سرد مجريات التردي الإسلاموي الآني، الأمر الذي ينذر بكوارث كبري تصل إلي حد تقسيم دول الربيع العربي إلي كيانات قزمية طائفية وإثنية يحكمها ذوو الوجوه العكرة، واللحي المسترسلة علي الصدور، والعقول الفارغة، باسم الإسلام الحنيف، والإسلام منهم براء. أحسب أن المغرب بمنأي عن هذا المصير البائس.