نظر الكثير منا إلي من يعملون بمهنة تلميع ومسح الأحذية بنوع من الريبة متخيلين أن هؤلاء مجرد مجموعة تتعاطي المخدرات وتمارس البلطجة وتعيش في الشارع وتفعل الموبقات، إلا أن تلك الصورة التي انطبعت في الأذهان مغايرة لحقيقتهم ، شأنهم شأن العاملين بمهن الشقاء الأخري التي تجمع الصالح والطالح . الأهالي سبرت أغوار تلك المهنة في عدة مناطق بالإسكندرية للتعرف علي حياة " ماسحي الأحذية " ، وأسباب اختيارهم لمهنتهم وكيف يتعايشون معها . يقول مصطفي شاكر 22 عاما حاصل علي دبلوم تجارة ، – يعمل حاليا منجد بمدينة القاهرة – أنه أتي إلي الإسكندرية مع عائلته عام 1998 من محافظة سوهاج ،وقد مارس تلك المهنة نتيجة عدم مقدرته الحصول علي عمل يكفي مصاريفه وانتقالاته . وأكد شاكر أنه كان يقضي 20 يوما لتأدية فترة تجنيده الشهرية ، أما أجازته ومدتها 10 أيام متبقية من الشهر فيقضيها في ممارسة تلك المهنة حتي يجد مصاريف جيبه وقت تأديته للخدمة الوطنية. وعن سبب عدم عمله بالمناطق الصناعية أو الحرة ، أوضح شاكر أن تلك المناطق تعطي أجورا ومرتبات لا تتعدي 350 جنيها شهريا للحاصل علي مثل مؤهله – المتوسط – وهو مبلغ يستقطع منه المواصلات والمأكل والمشرب أثناء اليوم وبالتالي لن يكفي قوت يومه. وقال "رغم اعتماد الكثير من المواطنين علي مهنتنا لزوم الأناقة ،رغم أننا نحمل أرزاقنا علي الأكتاف محاولين الاسترزاق بالحلال ،إلا أننا نعاني من المطاردات الأمنية مثل شرطة المرافق ومكافحة التسول ، حيث يقوم أفراد الأمن بالقبض علينا تاركين المتسولين والشحاذين" . ويذكر شاكر أن أحد الضباط قام بالقبض عليه فاضطر لإبراز " كارنيه" تجنيده واستعطفه كي يتركه ،وأكد أنه يقوم بذلك كي يوفر لنفسه بعض الجنيهات كمصروف . ويقول " عادل يوسف" 18 عاما، أن ماسحي الأحذية يعانون من تعرضهم لبعض البلطجية الذين يفرضون عليهم "إتاوات" ،ذاكرا واقعة رفضهم دفع تلك "الإتاوة" لأحد البلطجية ،الأمر الذي أدي إلي تجمع عدد أعوانه بالأسلحة البيضاء والهجوم علي ماسحي الأحذية ، لولا تدخل مباحث قسم المنشية بالإسكندرية وإنقاذهم من براثن البلطجية . وطالب عادل بتخصيص أماكن لهم من قبل المحافظة ، ليتسني لهم استئجارها بالإضافة لدفع رسوم مزاولة المهنة شأنها شأن باقي المهن التي يمتهنها أصحابها مجبرين . ووسط مجتمع الشقاء ، التقت الأهالي "عم أحمد" الذي لم يتعد عمره 42عاما، إلا انه بمجرد النظر إليه يجعلك تشعر أنه بلغ من الكبر عتياً، فهو شخص لا يحلم بوظيفة أو شقة أو علاج علي نفقة الدولة بالخارج ، وإنما كل أمانيه أن يسدد ثمن 3 صناديق "ورنيش" و"يعيش مستور". يروي عم أحمد ، الذي لا تكاد تري ملامحه وسط علامات الشقاء المرسومة علي وجهه حكايته مع تلك المهنة ، " حصلت علي دبلوم فني صناعي قسم كهرباء عام 1986 ورفضت العمل بالحكومة لأعمل بشركات القطاع خاص كهربائي ثم تزوجت وأنجبت 3 أطفال، وفي بداية التسعينات بدأت حالتي الصحية تسوء وتنتابني أعراض غريبة ، وبدأت أفقد الوعي ، وعندما ذهبت للطبيب اخبرني أني مصاب بالتهاب في الأعصاب مما يعرضني لنوبات صرع باستمرار". وأضاف "عم احمد" وهو يحاول منع دمعة غلبته لتحفر مجري في غبار الشارع المتراكم علي خده ، قائلاً "رفضت الشركات الخاصة عملي لديها خوفاً من تحملهم لمسئوليتي إذا ما حدث لي شيء أثناء العمل ، فعملت في مطعم وبعده في عدد كبير من الوظائف ولكن لتكرار نوبات الصرع التي أعاني منها لم استطع الاستمرار في أي وظيفة منها فنصحني بعض الأصدقاء بشراء صندوق ورنيش من أجل الإنفاق علي أطفالي". أما "أبو حودة" – كما يطلقون عليه – فهو أحد معالم مجمع الكليات النظرية بالإسكندرية بصندوق الأحذية الخاص به، والذي تري من ملامحه التي تستطيع أن تميزها علامات الزهد في الحياة وكأنه تحول إلي شخص لا يريد شيئا من الدنيا بالرغم من ضيق الحال الذي يستطيع أي شخص عادي تمييزه . وبالرغم من كبر سنه إلا أنك دائما ما تجد " أبو حودة" يجلس في مكانه هذا منذ سنوات عديدة تتجاوز العشرين عاما يتعامل فيها مع كل الطلبة و الأساتذة و المعيدين لدرجة أنه يستطيع أن يحدد لك بدقة من هو الدكتور المستعلي علي غيره ومن هو المتواضع ، فعالم مسح الأحذية برغم بساطته إلا أنه يكشف لنا عن أشياء وتفاصيل كثيرة لم نكن لنتوقعها .