«وطار».. الشهداء ر يعودون حل قبل أيام الروائي والمناضل الجزائري «الطاهر وطار» أحد مؤسسي الرواية الجديدة في الأدب العربي وأحد المدافعين عن اللغة والثقافة العربية في مواجهة الاتجاه الفرانكفوني الذي حذر «وطار» من إمكانية استيلائه ثقافيا علي الجزائر بعد أن قدمت البلاد الشهداء بمئات الآلاف من أجل الاستقلال السياسي في مواجهة استعمار استيطاني دام مائة وثلاثين عاما. أدرك «وطار» - وهو الذي تلقي تعليمه مبكرا في مدارس جمعية العلماء - أن اللغة العربية رغم أصوله البربرية هي وعاء الروح ومرتكز هوية الجزائر الوطنية، وأن معركة تحريرها تمتد علي جبهتين، الأولي ضد الهجوم الثقافي الفرنسي الذي يصارع في قلب الجزائر المستقلة لإعادة إلحاقها بالاستعمار من باب خلفي، والثانية ضد التوجهات الرجعية السلفية باسم الإسلام التي نبتت لأسباب موضوعية في جزائر ما بعد الاستقلال، واستفادت من الفساد الذي استشري في دوائر جبهة التحرير الوطني الجزائري.. الحزب الحاكم الوحيد آنذاك وكانت قصته «الشهداء يعودون هذا الأسبوع» التي تحولت لمسرحية واحدة من العلامات المميزة التي كشفت عن جذور التحلل حين صنعت عالما فاجعا يشعر فيه الشهداء العائدون وكأن تضحياتهم ضاعت هباء بعد أن دب الفساد في عالم ما بعد الاستقلال، ودفاعا عن اللغة والرؤية المنفتحة للثقافة العربية الإسلامية، والتوجهات العقلانية فيها أنشأ قبل عشرين عاما جمعية «الجاحظين» نسبة إلي أديب العرب الفذ «الجاحظ» وشعارها «لا إكراه في الرأي» ونظم منتدي ثقافيا شهريا في منزله بعد أن أحالته للمعاش قبل سن الخمسين السلطات الغاضبة من موقفه حين رفض فكرة التعامل الأمني مع شباب الجماعات الدينية وإرسالهم إلي مراكز عسكرية في الصحراء وعزلهم. ظل إبداعه الأدبي الغني هو دائما الوجه الآخر لنضاله العملي فاستحق وصف المثقف العضوي بامتياز ذلك المثقف الذي ترتبط أفكاره ورؤاه بالممارسة وبالجماهير التي تتوجه رسالته لها هو الذي أمسك بمبادئه كالقابض علي الجمر، ودافع عنها في كل أشكال إبداعه الثقافي. وفي هذا السياق أهدي للثقافة العربية شخصية «اللاز» في روايته الأم التي تحمل هذا الاسم ذلك المناضل الشيوعي الذي انخرط في الكفاح المسلح ضد الاستعمار، وهو يواجه في خضم النضال خيارين كلاهما أمر من الآخر إما الذبح وإما التذكر لمبادئه.. هذا البطل غاب تدريجيا عن أحداث الرواية ليعود فيما بعد وقد فقد وعيه بتأثير الصدمة التي سببها له ذبح والده الشيوعي «زيدان» أمام ناظريه بعد أن رفض التنكر لمبادئه ليجسد لنا من الواقع الفعلي للثورة صورة المناضل الذي يتمسك بمبادئه ويموت راضيا في سبيلها. وليست محنة «اللاز» - علي خصوصيتها الجزائرية - إلا تعبيرا عن الصراع الدموي المرير الذي عرفته كل تجارب التحرر الوطني وأحزابها هذا الصراع الذي جرت في ظله التصفية البدنية للشيوعيين.. ويقول «وطار» عن «اللاز» إنها «طفرة كبيرة في الرواية العربية، تتحدث عن الثورة لأول مرة بالملموس». وعالج «وطار» قضية الثورة الزراعية في الجزائر في روايته «العشق والموت في الزمن الحراش» ورواها من وجهة نظر طلاب متطوعين للعمل مع الفلاحين وهم يواجهون القوي المضادة للثورة التي حطمت الثورة الزراعية وأفرغتها من مضمونها في سياق إجهاض الثورة الشاملة حيث جرت بسرعة إعادة بناء المجتمع الطبقي الاستبدادي. وفي «الشمعة والدهاليز» عالج «وطار» قضية توجه شباب الجامعات الإسلامية لاستخدام العنف والصراع بين الرؤي المستنيرة والرؤي الظلامية في جزائر ما بعد الاستقلال، وفي هذا السياق كان «الطاهر وطار» قد عارض إلغاء الجيش لنتائج انتخابات عام 1992 التي بدا أن الإسلاميين قد فازوا فيها ورأي أن إعطاءهم الفرصة للحكم سوف يمكن الشعب الجزائري من اكتشافهم علي حقيقتهم ليتعلم الشعب من خبرته الذاتية. لم يقدم لنا «الطاهر وطار» أدبا جميلا فحسب إنما قدم أيضا نموذجا يحتذي ويدعو شباب وشابات الأدباء إلي تأمل تجربته كمثقف عضوي اغتني إبداعه الثقافي باتساع خبرته النضالية وعمقها والتي منحته معرفة استثنائية بواقع الحياة والمجتمع، معرفة لم يستمدها من الكتب وحدها وإنما استمدها أيضا من خصوبة الممارسة. وبقي أن علينا احتفاء ب «الطاهر وطار» أن نقرأ جيدا أديبا ومفكرا ومناضلا، فلا نقول وداعا.