«أوراق العمر» واحدة من أهم ما كتب في فن السيرة الذاتية، نظرا لما طرح فيها من أفكار بجرأة لا يملكها إلا كاتبها د. لويس عوض، الذي قدم فيها نقدا للحياة وللآخرين وللذات أيضا، ولعلها لذلك – هي والسيرة الذاتية للروائي المغربي محمد شكري – أكثر السير الصادمة للقارئ – للوهلة الأولي – ربما لطبيعة التركيبة الفكرية والعقلية للراوي، وربما للحياة العاصفة التي عاشها الكاتبان. إذا كان القارئ بقامة رجاء النقاش فإن الرؤية تأخذ بعدا أكثر موضوعية لفهم تلك السيرة الإشكالية، وقد كتب «النقاش» مجموعة من المقالات التي تناول فيها بالنقد والتحليل بعض النقاط التي أخذها علي د. لويس عوض بعد إصداره لسيرته عام 1989، وقد صدرت المقالات عن دار الشروق في كتاب تحت عنوان «لويس عوض في الميزان» حيث يري النقاش أن «عوض» فرق بين التاريخ الثقافي والتاريخ السياسي عبر لغة عالية من الصراحة والصدق، وهو مشابه لكتاب «تربية سلامة موسي» فكلا الكاتبين «تعرض لتاريخ مصر الحديث من خلال الكتابة عن حياتهما الشخصية»، وفي كتابه الراصد والكاشف يقدم «النقاش» عدة ملاحظات جوهرية حول «أوراق العمر» أولاها: خطأ «لويس» وهو يتحدث عن استقلال مدينة زفتي إبان ثورة 1919، بقوله: إن الذي أعلن هذا الاستقلال هو «زعيم من زعماء الوفد اسمه محمد بسيوني» في حين أن زعيم ثورة زفتي هو «يوسف أحمد الجندي». ثانيتها: حديثه عن «الجنرال يعقوب» والذي تعاون مع الحملة الفرنسية ضد المصريين، فيري لويس أن المصريين كانوا يكرهونه لأنه قبطي فيرد عليه «النقاش» بأن الكره بسبب إنشاء «يعقوب» لفرقة عسكرية تعاونت مع الفرنسيين لضرب المصريين فهو مكروه لخيانته وليس مكروها لديانته، وأول من وصفه بالخيانة هو «الجبرتي» وأسماه «يعقوب اللعين» والجبرتي – بالتأكيد – علي حد تعبير النقاش «مؤرخ كبير مسئول لم يعرف عنه التعصب» وربما هذه الجزئية أخذت – كثيرا – من كتاب «رجاء النقاش» لطبيعة القضية وحساسيتها التي تعامل معها ناقدنا الكبير بثقافة غزيرة وتفنيد للرأي بالرأي من خلال العودة إلي المراجع الموثوق فيها لمعرفة حقيقة هذه الشخصية الخلافية. ثالثتها: مقولة د. عوض بأن «أحمد شوقي شاعر سخيف أرستقراطي وينافق الجماهير» ويحاول أن يتقرب إليهم بالحديث عن أمور تهمهم مثل الدين والاشتراكية، فيرد النقاش بأن «شوقي أكبر من هذا فهو شاعر القضايا الوطنية والقضايا القومية في الثلث الأول من هذا القرن، وكان شعره غذاء روحيا رائعا لأبناء الأمة العربية في كل الأزمات والمواقف الصعبة». رابعتها: يختلف النقاش مع د. لويس في رأيه حول تحولات بعض الكتاب من الثورية في الفكر والأدب إلي التخلي عن هذه النزعة والكتابة في الموضوعات الرائجة وخاصة الموضوعات الدينية مثلما فعل د. طه حسين ود. محمد حسين هيكل، والذين وصفهم د. لويس بأن هذه التحولات «زندقة فكرية» فيشير «رجاء» إلي أن هؤلاء الكتاب والمفكرين لم يتراجعوا عما بدأوه من دعوات تجديدية وثورية لمجرد أنهم كتبوا في الإسلام، فقد كانت كتاباتهم الإسلامية تأكيدا لدعوتهم التجريدية وتدعيما لكل ما نادوا به من تطور حضاري في المجتمع. خامستها: وصف د. لويس لأم كلثوم ب «المغنية المليونيرة» التي تغني للاشتراكية، فيرد عليه النقاش قائلا: «أم كلثوم فلاحة عربية مصرية ولدت سنة 1898، في بيئة فقيرة وأسرة فقيرة، هذه المرأة الفلاحة البسيطة شقت طريقها إلي القمة بالجهد والعرق والموهبة». ورغم هذه المؤاخذات علي «أوراق العمر» فإن «رجاء النقاش» يعرف – بعين الناقد المحترف – القيمة الفكرية لصاحب الأوراق فنراه يقول في مقدمته «وهذا الاختلاف لم يمنعني من الاعتراف للدكتور لويس عوض بمكانته ودوره الكبير المؤثر في الفكر العربي الحديث». ومن اللفتات الطيبة في هذا الكتاب أن النقاش يهديه إلي الدكتور رمسيس عوض لشقيق الأصغر للويس والذي هاجمه في «أوراق العمر» بقسوة وبأوصاف صعبة، وهذا ليس غريبا علي «رجاء النقاش» الكاتب الضمير كما وصفه الراحل صلاح عبدالصبور. يقول النقاش: «لعل الدكتور لويس عوض قد قسا كل هذه القسوة علي شقيقه رمسيس حتي يثبت للناس أنه في كتابه عن حياته إنما يقول الحق ولو علي شقيقه، وشعر الدكتور لويس نفسه بأنه في معاملته لشقيقه كان قاسيا أكثر مما يجب، فقال عن نفسه: كنت كثيرا ما أحاكم نفسي بقولي: ربما كنت واحدا من أولئك الذين قال فيهم قاسم أمين: أعرف قضاة حكموا بالظلم ليشتهروا بين الناس بالعدل». ويضيف النقاش: والحقيقة أن الذي قاله الدكتور لويس عوض عن شقيقه رمسيس ليس عدلا بل هو ظلم، فالدكتور رمسيس عوض كاتب ومفكر وصاحب رؤية عميقة وثقافة واسعة، وهو باحث من طراز رفيع، وكتابات رمسيس عوض تختلف في نوعيتها عن كتابات شقيقه الأكبر الدكتور لويس، ولكنها في نهاية الأمر تعتبر من أفضل الكتابات العربية، ومن أعلي المراجع العلمية التي يمكن الاعتماد عليها والثقة بها. ولم يكن رمسيس عوض يستطيع أن يقدم كتاباته الموسوعية المهمة ما لم يتحصن بالهدوء والبعد عن الصراعات والمشاكل، وإلا لما استطاع أن يقدم إلينا كل هذه الدراسات العلمية الأصيلة مثل دراساته عن «شكسبير في مصر» و«صورة اليهودي في الأدب الإنجليزي» و«اليهودي في الأدب الأمريكي» و«الثالوث المحرم» و«الشذوذ والإبداع» وغيرها من الدراسات الجادة والمهمة والجديدة علي المكتبة العربية والقارئ العربي. وفي مقال تحت عنوان «أعداؤه كثيرون وأصدقاؤه أكثر» يبين رجاء النقاش بعض المميزات الإبداعية في أسلوب «لويس عوض» مرجعا إياها إلي بداية كتابته للشعر حيث يؤكد أن هذه البداية الشعرية عند لويس عوض تفسر لنا ما نحسه في أسلوبه من قوة وتدفق وسلاسة وإيقاع موسيقي جميل، فإذا كان لويس قد ترك الشعر فإن الشعر لم يتركه، بل تسلل إلي نثره فأعطاه ذلك الجمال الفني الذي نحسه في كل ما يكتبه. ويضيف النقاش: «والحق أن لويس عوض عاني في حياته الفكرية الطويلة كثيرا من المتاعب والمنغصات، ورغم هذه الحياة الصعبة القاسية فقد أنتج لويس عوض حوالي خمسين كتابا مهما، ما بين تأليف وترجمة، وأعماله في معظمها فكر ودراسة ورأي، وبعضها نماذج فنية من الشعر والرواية والمسرح يضاف إلي ذلك عشرات المحاضرات في الجامعات والمؤسسات الثقافية والعربية والعالمية، وبذلك يكون هذا المفكر الكبير قد بذل جهدا خارقا وغير عادي في حياته إلي أن توفي عام 1990 بعد صدور كتابه «أوراق العمر» بعام واحد فقط.