ويمكن القول إن قمة النضج النقابي والاجتماعي للطبقة العاملة الوليدة كانت ما بين أعوام 1907 – 1910، حيثما ما تواكبت سلسلة من الإضرابات المنظمة تنظيما جيدا، والتي تدعمها تكوينات تنظيمية غير معلنة وتمويل يساند العمال المضربين نجح العمال في مراكمته عبر ما أسموه الصناديق الحمراء والتي كانت قروشها تجمع من المواطنين بواسطة مواكب عمالية تطالب الجمهور بدعم العمال.. ولأن الحديث عن هذا الإضراب يمتد ليكون كتبا وكتابات عديدة فسوف نكتفي بالحديث عن إضرابين مهمين تميزا بحسن التنظيم ووضوح البرنامج المطلبي. ففي 13 أغسطس 1908 أصدرت مصلحة السكة الحديد وتحت رئاسة مديرين من الأجانب منشورا برقم 457 ويقضي بأن تكون ساعات العمل في اليوم 12 ساعة متواصلة تعقبها 12 ساعة راحة (الأهرام 14-8-1908) وعلي الفور تحركت «الجمعية السرية لبؤساء السكة الحديد» وأصدرت بيانا وزعته علي الصحف وعلي المقاهي جاء فيه «منشور الإدارة 457 صارم وغير مستطاع، نطالب بتقليل ساعات العمل وتحسين رواتبنا ولا نهدأ حتي ننال مطالبنا» وتشكلت قيادة سرية لتنظيم الإضراب وحددت قائمة بالمطالب ومن بينها: 8 ساعات عمل – يوم راحة أسبوعيا – تحسين الماهيات والرواتب – الامتياز في المعاش بحسب صعوبة وخطورة العمل – ترقية العمال حسب الأقدمية وليس بالخواطر، ولم تستجب المصلحة، بل خطت في منتصف أكتوبر خطوة أخري في تشديد العقوبات علي العمال وقرر العمال الإضراب يوم 18 أكتوبر.. واستمر الإضراب حتي تراجعت الإدارة وسلمت ببعض مطالب العمال، والمهم في هذا الإضراب هو المطالب التي حددت لأول مرة في تاريخ النضال العمالي وهي مطالب مستمدة من مطالب الحركة العمالية العالمية.. ثماني ساعات عمل – يوم راحة أسبوعيا.. إلخ. والمثير للدهشة أنه وفي اليوم نفسه (18 أكتوبر 1908) أضرب عمال الترام ولست أعتقد أن التوقيت المتزامن كان مصادفة ولعله تعبير عن عمل مشترك وجنين لفكرة الإضراب العام، وفي 3 أكتوبر حددت لجنة عمال الترام مطالبها ووزعتها علي الصحف، إنها تقترب من ذات مطالب عمال عنابر السكة الحديد: ثماني ساعات عمل – يوم إجازة أسبوعي مدفوع الأجر ويزيد عليها زيادة المرتبات بنسبة 40% – علاوة سنوية علي الأجر – السماح بالإجازات المرضية المدفوعة الأجر – إعادة العمال المفصولين – لجنة للتحقيق في شكاوي العمال يشترك فيها ممثلون للعمال، ورفضت الشركة الاستجابة لمطالب العمال الذين أخطروا المحافظة باعتزامهم الإضراب يوم 18 أكتوبر وفي الصباح احتل العمال قضبان الترام أمام مخزن شبرا لكن البوليس اعتدي عليهم بالعصي والكرابيج واعتقل 72 عاملا وخرجت قطارات الترام بقيادة عمال سبق فصلهم وإعادتهم الشركة للعمل، أما عمال مخزن الجيزة فقد استمر إضرابهم لليوم التالي حيث توجهت قوات ضخمة من الشرطة وعربات الإطفاء وضربوا العمال ضربا مبرحا وسلطوا عليهم خراطيم الإطفاء وقبض علي ثمانين عاملا منهم، (الأهرام – اللواء – المؤيد – المقطم يومي 4 أكتوبر 1908 و19 أكتوبر 1908). ويعاود عمال عنابر السكة الحديد إضرابهم في أكتوبر 1910 ويكونون أكثر تنظيما ويحصلون علي بعض من مكاسبهم. أما عمال الترام فقد عاودوا الإضراب يوم 30 يوليو 1911 لكنهم كانوا أكثر قوة وأكثر تنظيما، فأضرب 4000 عامل وموظف وتوقف العمل فعليا في كل مرافق الترام، وأصدرت الشركة قرارا يهدد العمال الذين لن يعودوا للعمل بالفصل، لكن العمال وبإجماع كامل تحدوا الشركة واستمروا في الإضراب ورابطت مجموعات كبيرة منهم أمام مخازن الشركة ومنعوا عربات الترام من الخروج، ثم كانت خطوة جديدة تماما وهي أن جموعا من العمال نظموا مظاهرات في باب الحديد وبولاق والعباسية والجيزة وهم يحملون لافتات ويوزعون منشورات تقول «عمال الترام المعتصمين يطلبون من الجمهور الكريم مد يد المساعدة لهم ومع المظاهرات صناديق يجمعون فيها تبرعات لضمان استمرار الإضراب ومع استمرار الإضراب لعدة أيام، أعلنت الشركة أنها تخسر في كل يوم 1200 جنيه وأنه لابد من فض الإضراب (اللواء – 2-8-1911) وفي اليوم الخامس للإضراب استحضرت الشركة قوات كبيرة من الشرطة الذين اعتدوا بوحشية علي العمال ونجحوا في إخراج عربة ترام من العباسية في طريقها إلي العتبة، لكن الجماهير الشعبية خرجت لتساعد العمال «وخرج أهالي الحسينية وأوقفوا العربة وضربوا ركابها وأشعلوا فيها النار، ولم يلبث هذا الموقف أن انتشر في كل أحياء القاهرة كلما حاولت الشركة تشغيل أي عربة ترام (أمين عزالدين – تاريخ الطبقة العاملة – ص107) والحقيقة أن صدام الشرطة مع العمال في العباسية أو ما أسمته الصحف بمذبحة العباسية قد أثار الرأي العام، وتكتب جريدة اللواء أحدث البوليس مجزرة في العمال، وداس الشعب في ساحات المدينة بسنابك خيله وعامل الجمهور معاملة السيد لعبيده» وتمضي اللواء «يا أيها العمال إنهم يخيفونكم ويرهبونكم، ويريدون التهويل عليكم.. ولكن فاعلموا أن الاعتصام حق من حقوقكم الطبيعية وإذا أردتم الاستمرار فيه فما من قوة قادرة علي التأثير عليكم، وقد جاءت حادثتكم بعد حادثة عمال السكة الحديد دليلا علي أنه أصبح في مصر قوة عمالية لا يستهان بها» (اللواء 5-8-1911 – ولمزيد من التفاصيل راجع: محمد سيد كيلاني – ترام القاهرة).. وتتوالي علي الصحف برقيات التأييد من مختلف أرجاء الوطن، برقية من طنطا «نطلب من ناظر الداخلية أن يعين بوليسا لمراقبة البوليس في أعماله وإلا اضطر الناس للدفاع عن أنفسهم» وبرقية أخري بتوقيع فلاح «الشعب أصبح يكره البوليس بعد أن كان يظن أنه يحميه». وليس خافيا أن كثيرا من هذا التضامن كان رفضا للاحتلال وقيادات البوليس الأجنبية وأصحاب شركة الترام الأجانب.. وتتواصل المعارك العمالية لتقترب بنا.. من ثورة 1919.