أقول لوالدي الآن بعد خمسين عاماً من الرحيل : كان عندك حق لا أشعر بالظلم وأبي كان مناضلاً مات بطلاً من أجل أفكاره البطولة لحظة الالتقاء بين الإنسان العظيم والامتحان الصعب حينما تصبح الحياة العزيزة ثمناً زهيداً يدفعها البطل ثمناً للكرامة والكبرياء.. قد يموت الإنسان.. قد تموت الشجرة ولكن الحقيقة أبداً لا تموت إنها قد تختفي أحياناً قد تطوي في عالم النسيان سنة وسنوات ولكنها تعود من جديد لتصبح سيفاً مسلطاً علي رقاب الظالمين.. بكلمات حسن فؤاد في كشف حقيقة ما حدث لشهدي عطية الشافعي نبدأ، فهي الكلمات الأولي التي كتبت عن اغتياله في مجلة صباح الخير عام 1974 عندما نشرت الأحداث الحقيقية.. وكانت هي أول ما تعرفه بطلة حوارنا حنان شهدي عطية عما حدث..حملت داخلها حكايات وبطولات تنفستها مع كل عام لتصبح جزءاً لا يتجزأ من إيمانها بأبيها الذي مات ليعيش رفاقه، حاولنا البحث داخل تلك الحكايات لنعرف كيف كان شهدي الإنسان.. والأب والحبيب. حكايات ما ملامح حكايتك التي تحملينها عن والدك شهدي عطية الشافعي؟ - روت لي والدتي ورفقاء والدي الكثير عنه خاصة عندما كنت في عمر السابعة حيث بدأ ظهور رفقاء والدي لي في المنزل واقترابهم منا كثيرا خاصة عندما أتممت السابعة ففي عيد ميلادي ازدحم المنزل بهم وقدموا لي الهدايا.. كانوا يرون أن والدي بطل وأنه شخص رائع وأنه مناضل وزعيم وأغلبهم قال جملة لا انساها: «إذا كنا عايشين فلأن والدك قد مات» وكنت أحيانا أرد عليهم بطريقة طفولية قائلة «ليته عاش هو وبقي معي». وحكايات والدتك .. كيف كانت؟ - قالت والدتي إنني عندما كنت صغيرة وأزور أبي في سجن الإسكندرية كان العساكر يدخلونني له ليلاعبني وكنت أرفض الخروج وأطلب البقاء وفي مرات أخري كنت اسأل والدي بما أن والدي موجود واراه فلماذا لا يخرج ويذهب معي لشراء الحلوي فكانت تبكي أمي من أسئلتي وذكرت أيضاً أن والدي عندما علم بميلادي أصر علي تسميتي «حنان» رغم صعوبة نطق الاسم علي والدتي وعائلتها اليونانية. كيف تعرف والدك شهدي عطية علي والدتك؟ -قصة تعرفهم أشبه بقصص الدراما، فكانت هي فتاة يونانية تعيش في مصر وطلبت منها صديقتها تهريب شاب سياسي بمنزلها في الزمالك ليوم واحد فوافقت أمي وأعطتها الشقة بشرط ألا يضيء النور وكان والدي وقتها تحت المراقبة وذهبت للشقة لتأخذ بعض الأشياء فوجدته يجلس في الظلام فقالت له بلهجة عربية متكسرة من فضلك لا تضيء النور، وبعدها سمعت صوته والذي وصفته لي أنه كان أحلي صوت سمعته وأجمل من تحدث الانجليزية أجابها بالموافقة والشكر.. خطفها بالصوت فقط، وبعد فترة ذهب إليها مكان عملها بمكتبها يحمل ورداً ويشكرها ويعرفها علي نفسه فبدأت قصة حبهما التي انتهت بالزواج .. وقد تزوجا كلاهما في سن الأربعين وكأنهما كانا ينتظران بعضهما البعض وعاشا معاً لمدة خمس سنوات فقط، منهما سنتان في السجن. متي تعرفت علي ما حدث لوالدك وقصة اغتياله؟ - والدتي لم ترو لي أي شيء عن هذا ولا حتي الرفقاء واعتقد أنها كانت رغبة أمي التي نفذوها حتي وصلت لسن السابعة عشرة تقريباً ونشرت مجلة «صباح الخير» تفاصيل الاغتيال وأعطتني المجلة قائلة لي: «آن الأوان لتعرفي ما حدث» فما كان مني سوي البكاء الشديد.. بعد تفاصيل تعذيب رجل يبلغ طوله مترا و98 سنتيمترا. والدتي والأفكار اليسارية حياة والدك مع والدتك التي تميزت بالخطر كيف شعرت بها والدتك؟ - والدتي لم تكن تنضم لأي من الأحزاب ولكنها كانت صاحبة أفكار يسارية وبالتالي استوعبت ما يحدث جيداً وتقبلته أذكر أنها قالت إن والدي كان مراقبا وبالتالي لم يكن في المنزل حتي الصباح أبداً وكان يضطر إلي أن يتركنا في الحادية عشرة مساء كل يوم فتقول «عمري ما استيقظت بجانب والدك». وكان يحاول حماية منزله فلم يعط العنوان لأي شخص. أوراق خاصة متي بدأت البحث داخل أوراق شهدي عطية؟ - منذ خمسة عشر عاماً بعد وفاة والدتي، وكان والدي لا يأتي بأوراق سياسية للمنزل خوفا علينا من تفتيش البوليس لذا فما وجدته كانت كتاباته الأدبية مثل «حارة أم الحسين» وبعض خطاباته لأمي أثناء فترة السجن وهي خطابات خاصة احتفظت بها معي ووجدت أوراقا أخري بخط يديه، وهي مكتوبة بخط صغير جداً كعادة السياسيين وقتها لحماية الأوراق في أقل عدد ممكن من الأوراق. سفرك خارج مصر وعودتك .. لماذا كان قرارا صعبا؟ - أولاً أنا سافرت للخارج كثيراً لأنني درست في موسكو وعدت إلي مصر وقد فتحت والدتي دار شهدي للطبع والنشر عملت فيها لفترة، وكانت هذه الدار لتخليد ذكري والدي كما رغبت والدتي وسافرت مرة أخري وتركت والدتي هنا ثم عدت إليها ولم أسافر إلا بعد وفاتها منذ خمسة عشر عاماً لأنه كان يصعب علي الاستمرار في مصر بعدها ، وعدت منذ أيام للاحتفال بذكري والدي والذي يقيمه تلاميذه واتصلوا بي لضرورة الحضور . القوة التي تتحدثين بها تبتعد عن شعورك بالظلم لفقد الأب دون رؤيته بشكل واع.. من أين تأتين بهذه القوة؟ - لا أشعر بالظلم ولست مسالمة ولكن والدتي كانت سيدة قوية أورثتني هذا الرضا فقد رأت والدي مناضلا مات من أجل أفكاره وأنا مثلها ولو رأيت والدتي لما اندهشتي، فقد رفعت قضية بعد سنوات طالبت فيها بفتح التحقيق في القضية وتقديم جميع الأدلة حتي كسبتها وطلبت لها المحكمة تعويضا وبرغم ذلك لم يدينوا القتلة حتي الآن.. أوراق الأب ما أوجه الشبه بين حنان وشهدي عطية؟ - هناك بالطبع شبه جسماني وفي ملامح الوجه والعينين، أما الشبه الداخلي فأعتقد أنني ورثت عنه حبه للناس وقدرته علي التعامل معهم من كل الطبقات وبعض من حاولوا يؤكدون شبه شخص بيني وبينه وأنا بالطبع أتمني هذا. بعد قراءتك لأوراق والدك.. ما الذي استخلصته منها؟ - لم أكن أعرف أن والدي أديباً يكتب قصصاً فالمشهد المعروف عنه أنه سياسي فقط ولكنه أيضا كاتب رائع، والدي كان يتحدث ببراعة وحمل داخله كاريزما الزعامة التي تقنع من يسمعه بما يقوله، حتي طلته الأولي كانت تؤثر فيمن يراه ولم أكن أعلم أنه يكتب بنفس البراعة أيضاً. الكثير من الكتابات تناولت والدك خاصة التي روت حادث الاغتيال أيهما تشعرين بأكثرها قرباً للحقيقة؟ - أري إن الإنسان دائماً ينسي الألم حتي رغماً عنه قد تكون لحظات وفاته أقوي من أي كتابة ولكني أري كتاب «الجريمة» للدكتور رفعت السعيد الأقوي والأصعب علي حد سواء. والبعض قال لي إن فيلم «البريء» لعاطف سالم هو الآخر حاول أن يسقط علي اغتيال والدي لدقة تفاصيل السجن وحفلة الاستقبال التي يطلقونها. هل اختلفت السياسة عن الأمس في رأيك؟ - كل مرحلة تاريخية تحمل معها خروج رجال يشبونها هذا في العالم كله وليس مصر فقط، قد نكون افتقدنا اليوم الأخلاص للأفكار لهذا افتقدنا ظهور رجال مثل أبي مخلصين لافكارهم وقادرين علي التضحية بحياتهم من أجلها ، نحن ندعي اليوم ما ليس فينا ، وتفكيرنا ينصب فقط علي الجانب المادي. متي تشعرين بالفخر؟ - بالطبع عندما أتذكر والدي أو يتذكره أحد أمامي والأكثر عندما أقابل شبابا يعرفون والدي جيداً أو يحبونه ويؤمنون به وبما قام به ويقرأون عنه خاصة الجيل الذي أتي بعد والدي بجيل، الأفكار لا أحد يستطيع حجبها أو منعها. بعد عودتك لمصر وغياب خمسة عشر عاماً .. هل تشعرين أنها اختلفت؟ - الناس فقدت الابتسامة، هذا أكثر ما لاحظته فضغوط الحياة أدت لهذا فالمصري معروف عنه بشاشة الوجه ولكنه اختلف في السنوات الأخيرة فبعد أن كانت ملامحه تحمل حزنا فقط أضيف إليها في رأيي الغضب أيضاً. بعد خمسين عاماً علي رحيل شهدي عطية الشافعي.. ماذا تقولين له الآن؟ - «كان عندك حق» لا أقول سوي هذه الجملة لا أشعر أن ما قام به وتضحيته بعمره وبعده عنا ذهب هباء بل أقول لنفسي أحياناً إنه إذا لم يفعل هذا لكان الحال أسوأ من ذلك ولكنه قدم الكثير فكنا أفضل إلي حد ما. وبكلماته لها: إنني أكتب إليك وأني آسف لعدم قدرتي علي المشاركة معك في الاحتفال .. كنت أود أن احتفل معك لأعبر لك عن تقديري.. ولكن قد حالت الظروف دون ذلك.. إن بعدي عنك يسبب لك آلاما كثيرة، ولكن عندما تشعرين أنني أضحي من أجل بلدي ومستقبل شعبنا .. سوف تكونين بجانبي تشدين من آزري وتمنحيني الشجاعة والقوة.. وأنا علي يقين أن ابنتنا حنان سوف تكون بجانبك لنحتفل معا ونعوض ما فاتنا.. هي كلماته في آخر خطاب لزوجته، شهدي عطية الشافعي ، نختتم بها لعلها الأنسب.