حتي في الزمان الرديء.. دعونا لا نلقي السلاح غيب الموت المؤرخ الانجليزي مصري المولد «ايريك هوبزبوم» الذي ينطبق عليه وصف الرحالة العالمي عن عمر خمسة وتسعين عاما، ليس لمصر مكان في حياتي، ولا أعرف متي تبدأ حياة الذاكرة لكن لا يرجع الكثير منها لعمر السنتين، فأنا لم أذهب إليها ابدا منذ أن غادرت الباخرة حلوان ميناء الإسكندرية باتجاه تولستي. قال المؤرخ الراحل عن أصله اليهودي إنه لم يكن صهيونيا أبدا، بل هو أحد مؤيدي القضية الفلسطينية ذلك أن والدته المتعلمة المثقفة كانت دائما متحررة من الاحقاد القومية المحلية رغم أن يهود «فيينا» التي عاش فيها جزءا من حياته كانوا متحررين تحدثوا دائما عن اليهود الشرقيين وكأنهم مخلوقات أخري، فليس هناك من سبيل لأن ينسي المرء حقيقة كونه يهوديا» أي أنهم رغم تحررهم لم يتخلصوا من النزعة العنصرية الدفينة التي أججتها الحرب بما أدت إليه من افقار الطبقة الوسطي في أوروبا. وهو يسجل كيف فشل اثنان من أقاربه فشلا ذريعا في التكيف مع قانون الغاب المهيمن علي اقتصاد السوق»، ورغم أزمة الطبقة الوسطي الطاحنة فيما بين الحربين العالميتين وهي المرحلة التي شهدت صعود هتلر والحزب القومي النازي في ألمانيا «فإن الغالبية العظمي من اليهود المتحررين، أو يهود الطبقة الوسطي في فيينا، لم يكونوا ولم يصبحوا ابدا صهاينة». أنها إذن قصة حياة عالم ومؤرخ وكاتب «يهودي وليس يهوديا» يقول «إذا افترضنا جدلا أن حلم هيرتزل قد تحقق، وأن كل اليهود سوف ينتهي بهم المطاف في دولة اقليمية صغيرة ومستقلة (إسرائيل) تستثني وتقصي الآخر، وتمنع حق المواطنة عن كل من لم يولد من أم يهودية، فسوف يكون يوما سيئا وحزينا لكل البشر ولليهود أنفسهم». يحكي «هوبزبوم» قصة تكوينه الفكري لا فحسب كمؤرخ وإنما أيضا كمناضل شيوعي انتسب إلي الحزب الشيوعي في كل البلدان التي عاش فيها، ويخبرنا كيف أن علم التاريخ الاقتصادي قد ازدهر في ألمانياالشرقية بفضل الدعم الهائل الذي قدمه أحد الشيوعيين الأثرياء «يورجن كوزينسكي» أغني مواطن في برلينالشرقية الذي قام بتوسيع المكتبة الاقتصادية، وقدم جائزة سنوية بلغت مائة ألف مارك ألماني شرقي للأعمال الواعدة التي يؤلفها العلماء الشباب في مجال التاريخ الاقتصادية وكان هو نفسه قد وضع كتابا من اثنتين وأربعين جزءا من «تاريخ أوضاع الطبقة العاملة». وعن هذه الفترة من حياته يقول هوبزبوم إن «الشهور التي امضيتها في برلين جعلتني شيوعيا مدي الحياة أو علي الأقل رجلا قد تفقد حياته طبيعتها وأهميتها من دون المشروع السياسي الذي التزم به منذ أن كان تلميذا في المدرسة». وفي تلك الأثناء بدأت ميولي الثورية تنتقل من النظرية إلي الممارسة، حيث الجاذبية الجمالية لنظام فكري كامل وشامل، وعرف مبكرا جدا أن الشيوعية لابد أن تعاني من المشاكل بسبب تخلف روسيا، وهو يخبرنا أن تأييد الحركة الشيوعية الحماسي لحقوق المرأة لم يجتذب سوي أقلية استثنائية من النساء وظلت حركة ذكورية في أغلبيتها الساحقة. أما مفتاح علاقته فيما بعد بالولاياتالمتحدةالأمريكية فكانت موسيقي «الجاز» التي ألف عنها فيما بعد كتابا، وكانت هذه الموسيقي هي التي شرعت له الأبواب أمام معظم ما عرف من حقائق عن الولاياتالمتحدةالأمريكية. خاصة أنه قرر أن يتعلم الجاز لأنه امتلك شغف اليهودي الفقير بالثقافة فكان يعلم نفسه بنفسه. ويتطلع إلي ما قاله ماركس «التحقيق الكامل لاحتمالات الكينونة الإنسانية» وأصبح علي قين أن «الثورة العالمية ستأخذ وقتا أطول بكثير مما يظنه المرء». ونهرته الابتكارات الثورية في أمريكا اللاتينية التي توقف فيها كثيرا. كتب هوبزبوم مجموعة من الكتب لا غني عنها لأي مؤرخ للعصر الحديث منها «ثوار بدائيون» عن الثورات التي مهدت من وجهة نظره للثورات الاشتراكية، وتاريخ للقرن العشرين باسم «عصر النهايات القصوي» إضافة إلي سيرته الذاتية. وقد اعتبر ايريك هوبزبوم أن عصر الليبرالية الجديدة أو الرأسمالية المتوحشة زمان ردييء، وهو مثله مثل كفافي «نظر إلي الكون من زاوية مفتوحة». «ومع ذلك دعونا لا نلقي السلاح، حتي في الزمان الرديء فمازلنا بحاجة لمكافحة وإدانة الظلم الاجتماعي. والعالم لن يصبح مكانا أفضل من تلقاء ذاته.