فقدت مصر والوطن العربي واحدا من أهم علمائها ومفكريها الاجتماعيين، كانت متعته الحقيقية هي إنتاج المعرفة. أهم ما يميز العالم الجليل أنه ظل نموذجا للمفكر المهموم بقضايا وطنه والملتزم بمبادئه والذي لم يفرط يوما رغم كثرة الإغراءات التي يتعرض لها أمثاله، فكان يردد دائما «أن المثقف الحقيقي لابد أن يكون ملتزما بقضايا الوطن وقضايا الجماهير»، وكان دائما ما يكرر علي مسامعي أنه ليس «خوجة» أي مدرس يلقن الطلاب الدروس في قاعات الدرس بل يري أن دوره يتعدي ذلك بكثير، ولابد أن يوظف علمه ومعارفه في خدمة الوطن، ويجب أن يقدم من وقته وجهده ضريبة لهذا الشعب. لقد عرفت الأستاذ الدكتور عبدالباسط عبدالمعطي منذ ما يزيد علي عقدين من الزمان من خلال كتاباته ثم التقيته وجها لوجه أثناء إعدادي أطروحة الدكتوراه واقترح علي عنوان الأطروحة والذي كان الخطاب السياسي للطبقة الوسطي المصرية وشاءت الأقدار ألا يكون هو مشرفا علي، ولكن لحسن الحظ قام بمناقشتي، ومنذ ذلك الوقت لم نفترق لحظة واحدة وبدأت رحلتي معه وعلي الرغم من أنها رحلة قصيرة لم تكن تتعدي السنوات الخمس فإنها مليئة بالوقائع والأحداث التي تعبر عن معدنه. بعد مناقشتي الدكتوراه ضمني أستاذي لمدرسته العلمية وقربني منه حتي صرت مشاركا أساسيا في كل مشروعاته البحثية والعلمية، واكتشفت أنني لم أتعلم شيئا قبل لقائه فقد أعاد تأهيلي وتعليمي من جديد كيف تفكر؟ كيف تبحث؟ كيف تكتب؟ كيف تختار القضايا البحثية؟ وكيف تعالجها معالجة موضوعية؟ قد تكون هذه المعالجة متحيزة ولكنها متحيزة لمن؟ هذا هو الأهم لابد أن تكون متحيزة للوطن والمواطن البسيط لابد أن تكون في صف الفقراء والمهمشين والشباب والمرأة، القطاعات التي تشكل الغالبية من شعب مصر ووطننا العربي. تعلمت منه الكثير أثناء إعدادي بحثا عن الهجرة غير الشرعية بين حلم الشمال والموت غرقا كان قد رشحني للمشاركة به في مؤتمر الجمعية العربية لعلم الاجتماع في طرابلس وهي الجمعية التي شارك في تأسيسها ورأسها لمدة عشر سنوات متصلة، قال لي في ذلك اليوم: لابد من تقديم معالجة لهذه القضية تتخلي فيها عن القواعد المنهجية التقليدية في علم الاجتماع، لابد أن تكون أكثر تحررا وأكثر إبداعا وأكثر موضوعية. ثم توالت مشاركاتي معه وكان أن ضمني للعمل معه في مشروع مرصد الإصلاح العربي الذي تقوم به مكتبة الإسكندرية،وكان علينا أن نكتب تقريرا عن الإصلاح الاجتماعي في الوطن العربي وعملنا لمدة عام تعلمت فيه الكثير كنا نجلس للعمل معا بالساعات وكان لا يكل ولا يمل من الإعادة والمراجعة وكان دائما ما يقول لي «معلش يا محمد نعيد من تاني علشان أسماءنا سوف توضع علي هذا التقرير» وكنت رغم إعادة كتابة التقرير أكثر من خمس مرات سعيدا جدا لأنني أتعلم قيمة الكلمة المكتوبة المحترمة وذلك الأستاذ الذي يحترم علمه وقراءه، وصدر التقرير وقام بوضع اسمي بجوار اسمه علي التقرير وكان ذلك شهادة ميلاد علمية بالنسبة لي. ثم ضمني للعمل تحت إشرافه في مشروع عن تحليل قرارات مجلس وزراء الشباب والرياضة العرب بجامعة الدول العربية والتي كان يعمل مستشارا لسياسات الهجرة والسكان بها وكلفني بإجراء الدراسة منفردا وبعد إنجازي لها كان سعيدا بإنجازي ورفض وضع اسمه مشرفا علي الدراسة وقال لي: لقد قمت بالعمل منفردا ويجب ألا أن يوضع اسمي عليه علي الرغم من أنني منذ البداية وحتي النهاية كان هو الموجه والمعلم الحقيقي. ثم أشركني في فريق بحث الإتجار في الأعضاء البشرية الذي يجريه المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية وأجرينا دراسة استطلاعية رائعة قدم فيها إبداعات كثيرة، ثم أجرينا دراسة ميدانية لم نكتب تقريرها بعد وكنا قد وضعنا خطة لكتابة تقريرها النهائي ولم يسعفنا الوقت والقدر لمواصلة المشوار في نفس الوقت كنا قد شرعنا في وضع خطة لكتابة تقرير عن إصلاح التعليم من خلال مرصد الإصلاح العربي لهذا العام وأعطاني الخطوط العامة لكتابة التقرير وكأنه كان يعلم أنه لن يكون معنا بجسده أثناء كتابة تقرير هذا العام. هذا قليل من كثير تعلمته من أستاذي العالم الجليل فقد كنت أدعوه إلي العديد من الندوات والحلقات النقاشية التي أنظمها بالحزب الناصري وكان يلبي الدعوة بكل الحب ولدي رصيد ضخم من هذه الندوات بها العديد من الأفكار الوطنية المخلصة. وكذلك كنت قد اقترحت عليه أن يكتب سلسلة مقالات عن حالة المجتمع المصري باعتباره أفضل من يقوم بهذا الدور في هذه المرحلة الفاصلة وبالفعل قدم لي ثلاثة مقالات لم تر النور حتي الآن بعنوان «المتلاعبون بعقول المصريين».. الأول: هو الخطاب الإعلامي والثاني هو الخطاب التعليمي والثالث هو الخطاب الديني. رحم الله أستاذي العالم الجليل الذي لن نستطيع تعويضه علي المستويين العلمي والإنساني .