علي شاشة الجزيرة الوثائقية رأيت فيلما وثائقيا عن الحياة في البوسنة والهرسك الآن بعد أكثر من عقدين علي انتهاء الحرب هناك التي شنتها قوات الصرب بعد تفكك دولة يوغوسلافيا الموحدة، رأيت النساء يحكين تجاربهن المريرة مع عدو خسيس أتبع سياسات التطهير العرقي مع المسلمين في ذلك الإقليم بعد سنوات طويلة، تصل إلي أن تتجاوز القرن من التعايش والمحبة بين السكان المسلمين والمسيحيين في شبه جزيرة البلقان، لم تكن كل النساء في الفيلم ترتدين الحجاب ولكن «الهم» كان العلامة الأهم لهن، خاصة حين تطرق الحديث للماضي والأسرة والعلاقات الدافئة القديمة بين أطراف المجتمع، لقد فقدت كل واحدة منهن تقريبا زوجها أو أبناءها في الهجوم علي مدن توزلا وسربينتشا وسراييفو ووجدن أنفسهن في معسكرات وخيام يختلط فيها الكل بلا خصوصية ويبحث كل واحد فيها عن ابنه أو أمه أو أبيه، اختار المخرج – الذي علمت أنه مصري من نهاية الفليم واسمه محمد قناوي بل هو كاتب البحث الذي قام عليه الفيلم – اختار أن يتوقف عند ثلاثة أمور أساسية: أحزان الماضي، والوضع الحالي وآمال المستقبل، وبالطبع فإنها كلها تسلم لبعضها البعض في هذا الفيلم الرائع الذي حمل أسماء علي مسمي هو «نساء يرفضن الموت» فالنساء فيه هن من بقين غالبا من أسر كثيرة تقوضت بموت الأب والأبناء في الصراع المسلح أو استهدافهن من قبل قوات الصرب كما سبق وشاهدنا في أفلام روائية عديدة عرضت في المهرجانات السينمائية في العالم كله، وحيث تحكي الأرملة «نظيرة بينكتسن» عن تأثير الحرب عليها وغياب الأب والابن الأكبر وقصف المدينة مما اضطرها إلي الرحيل مثل الآخرين لتقيم مع أسرة أخري في خيمة بمعسكر للاجئين ظلت فيها علي هذا الوضع لسنوات حتي رحلت العائلة الأخري إلي بلد آخر هاجرت إليه لتظل هي وحدها تبحث عن أي عمل لتعول بناتها، أما «منيرة جاجيتسن» مديرة المدرسة الكبري في سرينتشا فقد وجدت نفسها هي الأخري في معسكر كبير لا تعرف أحدا فيه حتي تعرفت عليها تلميذة لها، ولتدرك المعلمة أن عليها رسالة أهم في هذه المرحلة هي جمع شتات أهل المدينة وإيجاد أي منفذ يعيد الأمل في الحياة إليهم، خاصة إذا كان مؤسسة للتشغيل والبحث عن مهارات الناس والعودة للأعمال الصغيرة مثل أشغال الإبرة وأنوال السجاد التي اشتهرت بها نساء سراييفو، أما البطلة الثالثة «جيرمانا شتا» فهي أكثرهن ارتباطا بالتعليم وتعمل مدرسة في معهد «نهلة» للتدريب علي المشروعات الجديدة للبيئة والتي تعلن بأن المعرفة هي الشيء الوحيد الذي لا يمكن انتزاعه من الإنسان، لقد تم انتزاعها هي وغيرها من بيوتهم، ومن مدنهم، وحاولوا فرض واقع جديد عليهم وربما تاريخ جديد كما تؤكد جيرمانا التي تري أن الحرب لم تنته بعد فقد استطاع من فجرها أن يزرع الانقسام في مواطني البلد الواحد، «وعمدوا إلي إبراز الفروق بين الأعراق والملل، حتي لا يمكننا التفاهم في أبسط الأمور للدرجة التي أصبحنا فيها كمسلمين إرهابيين في رأي هؤلاء مع أننا نحمل في نفس الوقت أصولنا وثقافتنا الأوروبية»، هذه الكلمات شديدة الأهمية هي بيت القصيد هنا فحين تبدأ جماعات في الهجوم علي غيرها من المواطنين وتدفعهم لترك بيوتهم ومدنهم فإن الأمور لابد أن تتطور حتما إلي ما هو أبعد وأكثر خطورة، وقد فعل العرب المسيحيون هذا ذات يوم في حرب البلقان التي بدأت عام 1992 ولازالت مستمرة كما أكدت واحدة من شخصيات الفيلم، واليوم في مصر تتوالي حوادث الهجوم علي المسيحيين وتتعدد مرات تهجيرهم في إيقاع سريع منذ ثورة يناير، وهو ما يدفعنا جميعا إلي ترقب مستقبل غير آمن لأسباب كثيرة، ولقد تمنيت ومازلت أتمني أن يدخل الإعلام المصري المرئي مجال التوثيق والتسجيل للأحداث من خلال الأفلام التي يصعب التعامل معها مثلما يتم التعامل مع كثير من أخبار النشرات والبرامج، كان لدي التليفزيون المصري زمان إدارة للبرامج والأفلام الوثائقية الآن أخرجها من دائرة اهتماماته، أما القنوات المصرية الخاصة الغنية فمشغولة ببرامج التوك شو، والمسلسلات التركية وعلينا أن ننتظر طويلا لعل أحدا يقدم لنا وثائق حقيقية عما يحدث في مصر في كل مكان بعيدا عن الشائعات والاجتهادات الإعلامية غير المؤكدة.. ليس فقط عن عمليات تهجير الأقباط ولكن عن قطع الطرق وإضرابات العمال وخراب المصانع وكل ما يحدث في مصر الآن ضد الثورة.. وباسمها.