في كتاب «سراج الملوك» للعالم المغربي أبي بكر الطرطوشي، الذي عاش في القرن الثاني عشر، يتحدث المؤلف في ضوء عصره عن السياسة والأخلاق، وعن منافع الحاكم ومضاره، قائلا إن الحكام كالمطر والرياح، قد يتأذي منها المسافر وتتداعي الأبنية إذا أساءوا إلي الرعية. أما إذا صلحوا فإنهم يكونون ريا للعطاش، تثمر بهم الأرض، وتقلع المراكب الراسية علي الشاطئ إلي عرض البحر. إنهم، كسلطة مطلقة، قد يكونون نعمة علي الرعية، كما أنهم قد يكونون نقمة عليها يتوقي شرها، حسب سلوك هؤلاء الحكام. هل يسهرون علي حفظ حقوق الناس وأمنهم؟ أم يستغرقهم جمع المال، وتشييد القصور، وحنث العهود؟!هل هم كالليل الذي يسكن فيه عباد الله، ويستترون بظلمته؟! أم أنهم كالليل البهيم الذي تعدو فيه السباع، وينتشر أهل الريبة والشك؟! وإذا كانوا كالنهار، فهل هم في ضيائه ورزقه الواسع؟! أم أنهم كالنهار الذي تشن فيه الغارات علي أبناء السبيل، وتحتد الخصومات؟! ذلك أنه من المفروض لهؤلاء الملوك أن يكونوا بالنسبة لشعوبهم بمثابة الروح الصافي في الجسد، لا يستقيم أمر الحواس والجوارح إلا بها، ويستطيع فيه كل فرد أن يعطي غاية ما في نفسه. غير أن هذه الروح التي يمثلها الحاكم قد تكون متكدرة بالمعاصي والآثام، وفي هذه الحالة فإن أفراد الرعية لن يسلموا من فقد طبيعتهم الأصلية، ومن تعطلها عن العمل، وفسادها. ومن ناحية مقابلة فإن الطرطوشي يري أن الرعية إذا قدرت علي التعبير بالقول، وبلغة عصرنا تمكنت من التظاهر ورفع اللافتات المعبرة عن رأيها، فإنها تمتلك معها، أو يصحب هذه القدرة علي القول، القدرة علي الفعل، لأن الله يقوي من يخلص له ولنفسه، أيا كان هذا الشخص، وبغض النظر عن عقيدته الدينية. ولكي تتوطد أركان الدولة، علي الحاكم مراعاة القوانين والأحكام، بمعني أن يكون قضاؤه عادلا، عنوان الميزان، وبوابة التراضي بين المتخاصمين، وأن يتصف هو نفسه باللين في غير ضعف، وبالقوة والحزم في غير عنف، وأن يحرص دائما علي مشاورة جلسائه من أصحاب العلم والخبرة، لأن الانفراد بالحكم دون مشورة أحد، يؤدي إلي نفور المحيطين به، وتفرقهم عنه، بدلا من اجتماعهم حوله، وعونهم له. هذا بعض ما قاله الطرطوشي في كتابه الثمين «سراج الملوك» منذ ثمانية قرون، إيمانا منه بأن صلاح الحاكم صلاح لمن تبعه من الناس. ولذلك فعلي الحاكم أن يكون وفيا، حليما، متواضعا، متسامحا، ولا يكون متكبرا، كالأسد الذي يتعين الحذر منه والبعد عنه، لأنه لا أمان معه. وعلي الحاكم أيضا أن يقدر العلماء والفقهاء والأدباء، يعرف كيف يقربهم منه، وكيف يعظم وجوههم، من أجل المصلحة العامة، واستقامة الدنيا والدين. ولبلوغ هذه الغاية أيد الطرطوشي فتاوي خلع ملوك الطوائف في الأندلس، ووصفهم بأنهم من الخارجين علي أحكام الشرع، بسبب صراعهم بعضهم ببعض، وتحالفهم، في هذا الصراع، مع ملوك الروم. وبمثل هذه الفتاوي ثار يوسف بن تاشفين، وبسط سلطانه علي أقطار المغرب، وأسس دولة المرابطين التي قامت علي أنقاض دولة الطوائف، وظهرت عليها. ولم تكن معارف الطرطوشي تقتصر علي الثقافة العربية، وإنما كانت ثمرة إطلاعه وتبحره في آداب وثقافات وتاريخ الروم والفرس والهند، كما كانت ثمرة تجاربه وتنقله بين الأقطار العربية، حتي استقر به المقام في مدينة الإسكندرية، وسمي هناك بنزيل الإسكندرية. كما كانت هذه المعارف ثمرة مجالسة العلماء والزهاد والعامة الذين لم تكن منزلتهم في نظره تقل عن منزلة الصفوة أو النخبة، شرط أن تساوي الرئاسة بين الناس جميعا، وترتبط الأخلاق بالدين. والطرطوشي من المؤمنين بالقضاء والقدر، وعنده أن من يريد أمرا فعليه أن يسعي حتي يتحقق بإرادة الله وتقديره. ويعد خارجا عن العقل من يغلق بابه ولا يفعل شيئا لما يريد، متكلا علي الله، وعلي أهل هذا الشخص الذي تلتوي عليه الأمور، أن يقوموا بعلاجه ومداواته، لأن الحظ، وهو هنا القضاء والقدر، مرتبط بالاجتهاد. ويضرب الطرطوشي مثلا واقعيا لهذا الشخص الذي يريد ولا يفعل شيئا، معتمدا علي فعل الله، بالزارع الذي يطلب الثمر من الحقول، دون أن يبذر البذور، أو كمن لا يواقع زوجته وينتظر ابنا.