إذا كانت وظيفة الجامعة وظيفة مزدوجة، لأنها ملتزمة بتخريج طلاب مطلوبين في سوق العمل، كما أنها ملتزمة بتطوير العلم من أجل الإسهام في دمج المجتمع في المسار الحضاري، فإن أستاذ الجامعة مكلف بممارسة هذه الوظيفة المزدوجة، الأمر الذي يلزمه بممارستها أيا كان وضعه الاقتصادي أو الاجتماعي، لذلك فإن الحديث عن رفع المستوي الاقتصادي للأستاذ الجامعي لا يعني رفع مستواه العلمي، ولا أدل علي ذلك من أن الإعارات إلي دول الخليج تدخل الأستاذ إلي طبقة المليونيرات، إلا أنه في حالة عودته إلي جامعته بعد انتهاء الإعارة ينخرط في ابتزاز الطلاب ماليا عن طريق ما يفرضه عليهم من «كتاب مقرر» يلزمهم بشرائه بشتي الحيل والألاعيب. أما قبل «عصر الإعارات» فكان الأستاذ قانعا بمستواه الاقتصادي والاجتماعي، ولكنه لم يكن قانعا بما يرقي إليه علميا، إذا كان طموحه العلمي هو الذي يتصدر أي طموح آخر، بل كان هو المعيار الحاكم للمعايير الأخري، وبذلك تركت الجامعة بصماتها علي خريجيها فلم يكن ثمة بطالة أو ثمة تخلف، كما تركت بصماتها علي النخبة التي كانت تدير حركة المجتمع بأسلوب علمي وحضاري. أما الجامعة الآن - ومعها الأستاذ - فإنها تواجه إشكاليات جديدة لم تكن واردة فيما مضي، وتأتي في مقدمة هذه الإشكاليات، إشكالية «الجامعة ذات الأعداد الكبيرة» التي لا تسمح للأستاذ بإجراء حوار يفضي إلي إنشاء علاقة علمية صميمة بينه وبين طلابه، بل لا تسمح له بمطالبة طلابه بإجراء بحوث يستعينون فيها بما تحويه المكتبات الجامعية من مراجع ودوريات. فاهمل تزويد هذه المكتبات بأحدث ما انتجته عقول العلماء، وبالتالي انعزل الاستاذ عن المسار الحضاري عاجزا عن معالجة هذه الاشكالية، ومستعيضا عن كل ذلك بما يسمي «الكتاب الجامعي المقرر» أو «كتاب الاستاذ»، وهو مكتوب بطريقة تسمح للطالب باستيعابه حتي لو لم ينتظم في الدراسة، الأمر الذي أحدث انعكاساته علي عدم اهتمام الاستاذ بتطوير عقله علميا، فجاءت ابحاثه العلمية هزيلة بل وتطور الأمر إلي انتشار ظاهرة السرقة العلمية، فيما يقدم من ابحاث للترقية. وبناء علي ذلك اختفي الابداع العلمي حيث انه لا يمكن ان يتحقق في ضوء الكسل العقلي، أضف إلي ذلك ظاهرة جديدة مزدوجة اتسمت بها الابحاث العلمية هي الصبغة الدينية جنبا إلي جنب مع السرقات العلمية، الصبغة الدينية بحكم انتشار تيار الأصولية الإسلامية في المجتمع وهيمنته علي مجال التعليم، وهو تيار يتخذ من فهمه الخاص للدين وسيلة لتأسيس «عقل مغلق» يرفض الانفتاح علي ما يحدث في مجال العلم من تطوير بحجة أن هذا التطوير مضاد للقيم الدينية، ومن ثم توقف الاستاذ عن المشاركة في تخصيب العلم، بل تحول من استاذ إلي داعية ديني، ولما أصبح الأستاذ عاجزا عن أن يكون مبدعا في ابحاثه العلمية اضطر إلي سرقة مجهودات الاخرين العلمية، ومع انتشار السرقات العلمية وقفت الإدارة الجامعية مكتوفة الأيدي بدعوي الحرص علي سمعة الجامعات المصرية. ورغم هذا الحرص - بل بفضل هذا الحرص - خرجت هذه الجامعات من المنافسة، إذ حصلت علي تقدير «صفر»، لمرتين متتاليتين، أمام خمسمائة جامعة. وترتب علي الاشكالية سالفة الذكر اشكالية أخري هي وجود استاذ بعقل مغلق وسوق مفتوحة أوفي عبارة أخري، يمكن القول بأن ثمة تناقضا بين استاذ ذي عقل أصولي ديني وسوق علمانية. وحيث إن العلمانية مناقضة للأصولية ، فكان لابد للسوق العلمانية من الاستعانة بخبرات أجنبية، الأمر الذي أدي إلي مزيد من البطالة، ومع امتناع الحكومة عن توظيف الخريجين، كما كان الحال فميا مضي، تفاقمت البطالة إلي الحد الذي اصبحت فيه ظاهرة البطالة ظاهرة طبيعية وليست استثنائية. والسؤال بعد ذلك، كيف يعود استاذ الجامعة إلي وظيفته المزدوجة؟ الجواب عند استاذ الجامعة وليس عند الدولة، فمهما قيل عن ضرورة تدخل الدولة لرفع المستوي الاقتصادي للاستاذ أو دفعه إلي حضور مؤتمرات علمية أو ارساله في مهمات علمية، فإن لم يكن الاستاذ مريدا بعقله وارادته لممارسة وظيفته المزدوجة، فأي إصلاح بغير ذلك ليس ممكنا، وبوجه خاص في حالة ترديد شعار «استقلال الجامعة». إن هذا الشعار ليس صالحا مع عقل مغلق لأن مفهوم الاستقلال هو من مفاهيم «التنوير» وشعار التنوير «لا سلطان علي العقل إلا العقل نفسه»، إذن الاستقلال هنا يعني استقلال العقل. فكيف يكون الاستاذ مستقلا بينما عقله مغلق، أو بالادق عقله أصولي؟ والسؤال التالي اذن : كيف نعالج هذا العقل الأصولي؟ أو بالأدق، كيف يعي الاستاذ أن له عقلا اصوليا حتي يمكن علاجه؟ الجواب عن هذا السؤال يستلزم اثارة السؤال الأتي: هل ثمة امكانية لتكوين تيار بديل للتيار الأصولي يتبني مبادئ وقيم التنوير ويبثها في مجالي التعليم الجامعي والبحث العلمي؟ هذا السؤال موجه، في المقام الأول، والي استاذ الجامعة وإلي وزير التعليم العالي والبحث العلمي، في المقام الثاني.