بدأت الثورة السورية سلمية دون شك، وبقيت كذلك بضعة اشهر، حيث كان المتظاهرون يقومون بحراكهم بصدور عارية، ويحملون في أغلب الأحيان أغصان الزيتون بأيديهم ليؤكدوا للسلطة وأداة قمعها (الأمن والميليشيا) أن حراكهم سلمي صرف، وقابلتهم السلطة بإطلاق الرصاص، وقتل المتظاهرين الذين استمروا بسلميتهم، ثم استمرت السلطة بالقتل، ورافقته بتدمير بيوت المواطنين (عشوائياً) وسرقتها، وتبنت الحل الأمني للحراك بدون تحفظ ولا تردد. أطلق المنتفضون بالمراحل الأولي لحراكهم شعارات متواضعة (الكرامة، الشعب السوري ما بيذل) ومع ازدياد عنف السلطة وتناميها رفعوا سقف المطالبة، فتطورت مطالبهم فنادوا بالحرية، ثم بإصلاح النظام السياسي ثم بسقوط النظام، وأخذت أجهزة السلطة تستخدم أقصي قوتها وهمجيتها لقمع المظاهرات. وفي الوقت نفسه، أخذ المنتفضون يزدادون عدداً، ويوسعون طيف أهدافهم، وبقيت السلطة ترفض أي حل سياسي، أو الاعتراف بوجود تيارات سياسية، أو قبول الحوار مع الشعب وتياراته وممثليه، وتدّعي دائماً أن الانتفاضة هي مجرد تمرد، محرض من الخارج، ومدفوع له، ومجموعة من الأصوليين، ولاينفع معهم سوي المواجهة المسلحة، وقالت إنهم عصابات مسلحة، وعرضت بالتليفزيون السوري صور أسلحة وأموال قالت إنها وجدتها معهم. تطور التصعيد من هنا وهناك، وبدأ الانشقاق بالجيش النظامي وتشكيل ما سمي (بالجيش الحر) وأخذ التسرب إلي هذا الجيش يزداد، حتي صار الآن جيشاً حقيقياً يراهن عليه كثيرون في الانتصار في الداخل والخارج علي جيش النظام، وتستعد دول عربية وغير عربية عديدة الآن لتزويده بالسلاح (المضاد للدروع وللطيران) وبالمال والتدريب والتنظيم، وبرز الجيش الحر في النهاية كعامل رئيس في إسقاط النظام، وفي الخلاصة أصبح الصراع العسكري المسلح في سورية هو الطاغي، وانتشر وصلب عوده، علي حساب النشاطات السلمية الأخري، وبدأ مع هذا الصراع انتشار الفوضي وتدمير سورية، ولم يعد الجيش السوري جيشاً بمعني الكلمة، بل صار مجموعات مسلحة لها الحق بقصف الأحياء السكنية بالدبابات والطائرات بحجة وجود إرهابيين، ونهب البيوت وإحراقها، وتدمير ما نجا منها من القصف، واستباحت مجموعات الجيش السوري المسلحة، هذه سورية شعباً، وأبنية، وقوانيناً وتقاليداً، ولم يعد أي شيء محرم عليها، وزاد هذا في تمسك الناس بالحل العسكري أيضاً وبالجيش الحر، أملاً أن يحميهم من مجموعات الجيش المسلحة التي دمرت قري وبلدات سورية، التي أصبحت تذكرنا بمدن ألمانيا وبلداتها وفي نهاية الحرب الثانية. حل الازمة خارجيا علي الجانب السياسي، لم يعد الشعب السوري، ولاتياراته السياسية ولا أحزابه تملك حل الأزمة، بل انتقلت هذه إلي أياد أخري خارج الحدود، سواء كانت مؤسسات الأممالمتحدة، أم المنظمات الإقليمية والدولية (الجامعة العربية، حلف الناتو، المنظمة الإسلامية، المجموعة الأوروبية.. الخ)، وأصبح الشعب السوري متفرجاً ومنتظراً أن يحل الغير أزمته، ومهما كانت الأسباب التي أدت إلي نقل حل الأزمة للخارج، وهي أسباب عديدة ومعقدة، فإن النتيجة أن السوريين أصبحوا علي سلم انتظار الحل الخارجي، ونظراً لأن الدول النافذة في العالم، يغني كل منها علي ليلاه، فقد أصبح الصراع في سورية، صراع الآخرين علي أرضها وعليها كما قال الأمين العام للأمم المتحدة، فكل من الدول النافذة تنتظر الفرصة لتكون الرابح الرئيس من هذا الصراع، ويبدو أن الأمر سوف يطول ولن ينتهي إلا بعد تدمير سورية. أما المعارضة السورية، فقد اعتقدت الخارجية منها بضرورة استقدام الغزو الخارجي لإسقاط النظام، وعملت علي ذلك وفشلت، ثم بدأت تتشظي لأنها لا تملك هدفاً محدداً، ولابرنامجاً ولا أساليب عمل، وطمعت بالمساعدات التي تساعدها علي التنقل بالدرجة الأولي، والإقامة في أفخم الفنادق واستئجار أحسن البيوت، واكتفت بالنضال التليفزيوني علي حساب وحدة المعارضة، وتجاهل التنسيق مع المنتفضين ومع المعارضة الداخلية وممارسة النضال الداخلي، وصولاً الي العصيان المدني، وقد طلع علينا بعضها مؤخراً بإعلان نواياه لتشكيل حكومة انتقالية ، لا يعرف أحد أهدافها ولا أساليب عملها أو مصادر قوتها، خاصة أنه ليس لها علاقة أو تنسيق جدي مع الحراك الشعبي، أو المعارضة الداخلية، التي بدورها ليس لها القواعد الكافية التي تعطيها الشرعية لتقرر وتشارك في إقرار مصير البلاد، وهكذا بقي الحراك الشعبي لوحده يواجه الجميع، ويتحدث الجميع باسمه بدون حق. وهكذا فخلاصة الوضع في سورية، هو أن المعارضة متعطشة للسلطة، والسلطة ومسلحيها متعطشة للدماء والهدم والقصف والحرق والنهب، والدول الخارجية تعمل لتحقيق مصالحها، دون أخذ مصالح سورية بعين الاعتبار، والشعب يضحي بدمائه وأمواله وأملاكه دون أن يشاوره أحد حول تقرير مصيره أو مستقبله.