أخشي ما تخشاه أمريكا ان يأتي دور السعودية، سواء جاء بعد غيرها من دويلات الخليج الصغيرة او قبلها. فأميركا تعلم وتملك من المعلومات ما يؤكد لها ان الجماعات الإسلامية المنظمة التي قاتلت من قبل في ليبيا وسوريا وفي اليمن، وخاضت معارك سياسية في مصر، انما تقاتل من اجل السلطة قبل كل شيء. ولن يقف طموحها عند حدود السعودية او غيرها.امريكا تعلم ان النظام السعودي، وإن كان قريب الشبه بأي نظام تريد التنظيمات الإسلامية إقامته في اي من البلدان العربية، ليس هو تحديدا النظام الذي تريده، وأن السعي الي السلطة في السعودية يكبر مع اتساع رقعة السيطرة التي تحققها هذه التنظيمات في المنطقة. وتعلم أمريكا ان السخاء الذي تبذل به السعودية مساعداتها لهذه التنظيمات في صورة اموال وأسلحة، يهدف اول ما يهدف، الي إبعاد خطر التنظيمات الإسلامية عنها وعن منطقة الخليج، وهو ما ينطبق علي كل من قطر والإمارات المتحدة والكويت، ولكن أمريكا تظن ان هذا السخاء السعودي وغيره لن يكون سبباً في وقف زحف هذه التنظيمات الي ابعد من سوريا ومصر وليبيا واليمن وتونس. في الوقت نفسه، فإن أمريكا تدرك جيداً ان الحرب الراهنة الدائرة في سوريا يمكن ان تطول، بل يمكن ان تنتهي بانكسار التنظيمات الاسلامية وفشلها في الاستيلاء علي السلطة في دمشق. وعند هذه النقطة بالذات تكمن قضية الخلاف الخفي بين السعودية وأميركا، لأن السعودية مقتنعة الي اقصي درجة بالسيناريو الليبي، وهي لا تري سبباً يمنع الولاياتالمتحدة من ان تستخدم قوات حلف الاطلسي لإنهاء الصراع الدائر في سوريا بدلاً من ان يطول او يتعثر. اما الولاياتالمتحدة فإنها تري ان ليبيا كانت بيئة مختلفة وأقل وعورة من البيئة القتالية السورية، وأنها لا يمكن ان تغامر بدخول عسكري أمريكي و/أو اطلسي في سوريا قد يستمر لفترة طويلة وقد لا يحقق اهدافه. يضاف الي هذا خلاف آخر سعودي – أمريكي حول المعارضة السورية. ويرجع هذا الخلاف الي تعدد توجهات واتجاهات هذه المعارضة في ما يتعلق بالتدخل الخارجي العسكري. فبعض منظمات او جماعات المعارضة السورية ترحب وتدعو الي تدخل خارجي تظن انه يمكن ان يحسم الحرب الدائرة، وبعضها الآخر يعارض هذا التدخل ويعتقد انه يقضي علي اي فرصة لنيل تأييد الشعب السوري ضد النظام. ترك الخلافات وقد أضافت اسرائيل بعداً آخر علي الموقف تحمست له الولاياتالمتحدة، ولكنه يزيد من تردد الموقف السعودي، ونعني به ما اعلنته اسرائيل علي لسان وزير دفاعها ايهود باراك من انها تخطط للتدخل في سوريا خشية سقوط أسلحة كيماوية سورية في ايدي المنظمات المعارضة. ويرجع حماس أمريكا للتدخل الاسرائيلي الي اقتناع بأن دوراً اسرائيلياً يمكن ان يساعد في حسم الحرب علي سوريا، اما التردد السعودي فيرجع الي إدراك أن دخول اسرائيل من شأنه ان يلهب مشاعر الشعب السوري ضد المعارضة وضد كل القوي المؤيدة لها. الامر الذي لا شك فيه هو ان النظام الحاكم في السعودية يترك المسائل الخلافية بينه وبين الولاياتالمتحدة حتي الآن بشأن ما يجري في سوريا للجانب الأمريكي يقرر فيه ما يشاء. ولكن السعودية تعمل بكل جد، لكي تنأي بنفسها عن المسائل التي تتخذ فيها الولاياتالمتحدة قرارات تنفرد بها. هذا ما حدث علي وجه التحديد في عملية التفجير التي جرت في مبني الأمن القومي السوري في دمشق والتي أدت الي مصرع وإصابة عدد من كبار القادة الأمنيين السوريين. لقد اقتربت المصادر الأمريكية الرسمية من الاعتراف بأن هذه العملية الدقيقة المحكمة ما كان يمكن ان تتم علي هذا النحو لولا مساعدة مباشرة من الجانب الأمريكي لم تقتصر علي التدريب وتوفير المعلومات، انما شملت التوجيه وتحديد الزمان. لقد نأت السعودية بنفسها تماما عن هذه العملية وآثرت الصمت بشأنها، حتي فيما يتعلق بالجانب الانساني الذي حدا ببعض المسئولين الأمريكيين للنأي بانفسهم عن “عملية القتل” فيما قالت ان العملية تشكل ضربة لا بد من الترحيب بها ضد نظام الأسد (…) الرجوع للخلف وقد صرح جوزيف هوليداي، وهو ضابط مخابرات سابق في الجيش الأمريكي ويعلّم الآن في معهد دراسة الحرب التابع للجيش الأمريكي، أن خبرة المعارضين السوريين في مجال استخدام اجهزة التفجير “تأتي في جانب منها من الخبرة التي استقاها هؤلاء المعارضون من الفترة التي كانوا يقاتلون فيها ضد القوات الأمريكية في شرق العراق”. وقالت مجلة “دير شبيغل” في هذا المجال إن السبب في ان المعارضة السورية لم تستطع حتي الآن ان تنجز عملاً عسكرياً كبيراً إنما يرجع الي الخلاف الذي لا يمكن تجاوزه بين هذه المعارضة والخلافات التي لا يمكن تخطيها بين المقاتلين الجهاديين الاسلاميين وغالبية السكان السوريين. ان الجماعات الاسلامية التي تمول بصورة متفوقة كثيرا وتجهز بالاسلحة والمعدات من قبل الدول الخليجية تمسك بكل شدة بسلطة صنع القرار”. وتضيف “دير شبيغل” إن “الأمريكيين أنفقوا اموالهم علي »الاخوان المسلمين« بشكل خاص في بلدان الربيع العربي. فهم يعتقدون بأنهم (اي الاخوان المسلمين) سيكونون هم القوة المسيطرة غداً”. ويمكن الجزم بأن هذه إحدي النقاط التي تثير قلق السعوديين من افكار حلفائهم الأمريكيين. ان السؤال الذي يؤرق القادة السعوديين في النظام الحاكم هو: ماذا ستفعل الولاياتالمتحدة اذا تحالف الاسلاميون (»الاخوان المسلمون« بنوع خاص) ضد النظام السعودي في سعيهم المتواصل والدؤوب للاستيلاء علي السلطة؟ والسعوديون لا يشكون ابداً في ان الاسلاميين سيبذلون اقصي ما بوسعهم لإقناع الأمريكيين بأنهم سيبقون علي تحالفهم معهم اذا ما آلت السلطة اليهم في السعودية. ومفهوم ان هذا يعني ان »الاخوان المسلمين« وحلفاءهم السلفيين سيتعهدون للأمريكيين بالاستمرار في امدادهم بالنفط من كل منطقة الخليج. ويجدر بالذكر هنا ان مثل هذا التعهد من جانب المنظمات الاسلامية لن يكون اصعب من تعهد الاخوان المسلمين في مصر للأمريكيين والاسرائيليين بالحفاظ علي معاهدة السلام التي وقعها نظام انور السادات المصري مع اسرائيل وحافظ عليها بكل اهتمام نظام حسني مبارك طوال اكثر من ثلاثين عاماً. قد يقال في هذا الصدد ان النظام السعودي قريب من اي نظام يمكن ان يقيمه الاسلاميون وخاصة »الاخوان المسلمون«، وبالتالي ما الذي يستوجب تغيير النظام السعودي بنظام شبيه به؟ والرد علي هذا السؤال هو مرة اخري ان الاستيلاء علي السلطة هو هدف اولي يسبق ويعلو علي كل الاهداف الاخري لدي المنظمات الاسلامية وبالاخص »الاخوان المسلمين«. وهذا هو السبب في ان الحكام السعوديين يخشون أن يرتد المعارضون الاسلاميون عليهم في حالة ما اذا نجحوا في سوريا وحتي اذا فشلوا هناك. البعد عن الاستهداف ان اكثر ما يؤرق الحكام السعوديين هو ماذا ستفعل الولاياتالمتحدة اذا تحالف الاسلاميون الذين تؤيدهم فأصبحوا مناهضين للحكم السعودي. وبالقدر نفسه يمكن القول إن ما يؤرق التنظيمات الاسلامية هو التساؤل: الي متي تظل الجماعات الاسلامية بعيدة عن استهداف النظام السعودي؟ لعل الإجابة عن هذه التساؤلات ترتبط اكثر ما ترتبط بحدث سعودي اخير اثار اهتماماً عميقاً في أمريكا وفي الغرب كله، ولكنه لم يقابل بالاهتمام نفسه من النظم العربية او حتي من الاعلام العربي، ونعني بهذا الحدث الإعلان الفجائي من جانب المملكة السعودية قبل ايام عن تعيين الأمير بندر بن سلطان رئيساً للمخابرات السعودية. وأهمية هذا القرار الملكي السعودي تأتي من ان الأمير بندر كان قد جمّد في منصب شرفي لا اهمية له الا من الناحية الاسمية، هو منصب رئيس مجلس الامن القومي السعودي، ولكنه اختير فجأة ليكون رئيساً للمخابرات السعودية. ومعني هذا القرار ان المملكة تريد ان تستعين بخبرة بندر بالولاياتالمتحدة وسياساتها وقراراتها في المرحلة القادمة. وربما يكون المعني الحقيقي لهذا القرار ان المملكة السعودية تريد ان تقرأ نيات أمريكا السياسية بشأنها في الاعوام التالية. فقد تولي الامير بندر منصب سفير السعودية في واشنطن طوال الفترة من عام 1983 الي عام 2005. وهي اطول فترة قضاها سفير عربياً كان او غير عربي في واشنطن. ان الفترة نفسها شهدت تغيير السفير الأمريكي في الرياض ست مرات (…). ان الأمير بندر هو اعلم وأخبر شخصيات المملكة بأمريكا وسياساتها وأهدافها، خاصة في المنطقة العربية. وقد اتيح له ان يكوّن صداقات مع النخبة الحاكمة الأميركية من الحزبين الديمقراطي والجمهوري. وأتيح له ان يعرف عن قرب كل من توالوا علي منصب مدير المخابرات المركزية الأمريكية طوال تلك السنوات التي قضاها في واشنطن. ولعل اصدق تعبير عن اهمية توقيت القرار السعودي بتعيين بندر هو ما قاله المحلل السياسي السعودي عبدالله الشامري: “في هذه اللحظات القلقة للغاية بالنسبة للسياسة الخارجية السعودية فإننا نحتاج الي بندر بن سلطان. انه بركان ونحن بحاجة الي بركان في هذه اللحظة”. وفي رأي الشامري فإن الفترة الحالية تشبه الفترة التي خدم فيها بندر كسفير للسعودية لدي واشنطن حينما كانت الولاياتالمتحدة والسعودية متحالفتين في الحرب ضد السوفيات في افغانستان. وقال مايكل ستيفن، المحلل السياسي في معهد الخدمات الملكي المتحد: “لو انهم (السعوديون) يريدون زيادة تدخلهم في المسألة السورية فهذا هو رجلهم”. وتكشف التطورات منذ بداية ما سمي بثورات الربيع العربي ان الولاياتالمتحدة وضعت نفسها امام تغيير كلي في خططها تجاه المنطقة العربية. وبالمعني نفسه فإن الفترة المقبلة تشكل اختباراً حاداً لمدي دقة التخطيط الأمريكي لسياسة جديدة في المنطقة. وتشكل اختباراً ايضاً لمدي قدرة المملكة السعودية علي الاستعداد لمفاجآت التحولات الأمريكية من موقف الحليف الي موقف العدو.. من موقف التأييد للمملكة السعودية الي موقف الداعم للجماعات الإسلامية ضدها. وهو احتمال لا يمكن استبعاده كلية.